أقلام حرة

قراءة في الرسالة الملكية إلى مدير المخابرات

بقلم العميد المتقاعد عبد الناصر الشلول

بعد الإعلان عن الرسالة الملكية إلى مدير المخابرات العامة ونشرها عبر مختلف وسائل الإعلام محليا ودوليا، انهالت وتعددت التحليلات التي تناولتها، منها من ذهبت بعيدا وربطتها بالتحولات على الساحة الدولية وما أفرزته الانتخابات الأمريكية من عودة الحزب الديمقراطي إلى الواجهة السياسية الدولية، ومنها ما لم يجاوز إصبع القدم؛ حين اعتبرت ذلك تقليصا من دور الجهاز وتحجيما لصلاحياته بعدما اعتبروه متغولا على أجهزة الدولة، وغير ذلك من التحليلات التي عكست الحالة الشعورية والنفسية لبعض الأوساط التي لم تلتق مصالحها في أي وقت من الأوقات مع أهداف ومهمات الجهاز النبيلة.

منذ أن تأسس الجهاز عام 1964 ولغاية الآن درج شأنه، شأن كل الأجهزة في العالم، على مواكبة تطورات العصر ومتطلباته ومستجداته في جميع المجالات، وأهمها العنصر البشري واللوجستي، وهو أمر محمود ومطلوب في جميع القطاعات الحيوية في الدولة، ولاسيما أننا نتحدث عن جهاز سجل تفوقا عالميا وريادة في العمل الاستخباري المحترف، حيث غدا مدرسة في التعامل مع قضايا أقلقت العالم على مدى عقود مضت، كقضايا مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة الخارجة عن القانون في جميع أنحاء العالم، ولا أبالغ في القول أنه تفوق بذلك على كبرى الأجهزة في العالم، وما كان ذلك ليتحقق لولا الثقة والدعم الملكي المتواصل.

عندما نتحدث عن وطن تحتكم مؤسساته إلى الدستور والقوانين النافذة، فإن أي تحديث وابتكار يقوي هذه المؤسسات ويشد من أزرها تحت مظلة دستور حدد خارطة الطريق للجميع ضمن مرجعية القانون والنظام وهو الهدف المنشود، وعندما نتحدث عن تحديد الاختصاصات فإننا نستطيع تحديد المسؤوليات والفجوات ومواضع التقصير – إن وجدت – ليسهل الوصول إليها ومعالجتها.

أما ما ورد في الرسالة الملكية فيما يخص تطوير المؤسسات الرقابية وبناء المؤسسات التي ترسخ النزاهة وتحارب الفساد، ففي عام 1996 ونتيجة لظروف موضوعية داخلية وخارجية ألقت بظلالها على الأردن وأفرزت تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية، استحدثت مديرية لمكافحة الفساد تتبع لدائرة المخابرات العامة، في ظل غياب دوائر ومؤسسات فاعلة ومدربة يمكن أن تقوم بهذا الدور، وتصدت هذه المديرية منذ استحداثها لقضايا فساد لا تعد ولا تحصى مثل قضايا الأسلحة والتزوير والرشوة والتهرب الضريبي والتهريب الجمركي والاحتيال والاختلاس ومخالفة قانون المواصفات والمقاييس وتقليد أختام حكومية والاتجار بالآثار وبيع أعضاء بشرية وحيازة وتهريب المخدرات وقضايا ملكية فكرية وتزييف عملة وحتى مخالفات في الغذاء والدواء وتهديد الصحة العامة، وغيرها كثير من القضايا التي تهم المواطن والقطاعات التجارية، وتشكل انتهاكا للقوانين. تلك القضايا تعاملت معها مديرية مكافحة الفساد وبمساعدة كثير من العاملين في الجهاز في مختلف المواقع وبخاصة العاملين في المراكز الحدودية، ولا أفشي سرا إذا قلت بأن جميع هذه القضايا وما تبعها من تفاصيل ومتابعات استخبارية وقضائية كانت تستنزف طاقات وجهد العاملين في الجهاز. ولا شك بأنه أمام ذلك كله فإن الرغبة الملكية قد التقت مع رغبة قيادة الجهاز في التحرر من بعض الأعباء لتتولاها الدوائر المختصة الأخرى، بعد أن نضجت واشتد عودها وتوفرت لديها الوسائل القانونية والفنية التي تمكنها من القيام بهذا الدور بكفاءة واقتدار بما يوازي مهارة وكفاءة جهاز المخابرات، وليتفرغ جهاز المخابرات لعمله في مجال حفظ أمن الأردن داخليا وخارجيا، من كل المتربصين وأبناء الظلام.

إن الرسالة الملكية ليست موجهة فقط لمدير المخابرات العامة، بل هي توجيه لجميع المؤسسات والدوائر في الدولة الأردنية لاعتماد الكفاءة والشفافية والمهارة والتحديث المتواصل والابتكار والابتعاد عن الروتين، واعتماد مبدأ الاختصاص وتحديد المسؤولية في العمل، كما أنها تضع الدوائر الرقابية الأخرى على المحك، في حين سيبقى جهاز المخابرات هو المرجعية لدى صانع القرار في التقييم العصري في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وسيؤشر على مواضع الخلل – إن وجدت – وبدون تدخل مباشر.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page