أقلام حرة
إعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد العهد العثماني : تحليل شامل للعوامل الظاهرة والخفية
د. نعيم الملكاوي
مع انهيار الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، شهد المنطقة تحولات جذرية أعادت رسم خريطتها السياسية والاجتماعية . هذه التغييرات لم تكن نتيجة لعامل واحد أو هدف منفرد ، بل كانت محصلة لتفاعل معقد بين قوى متعددة ، بعضها ظاهر للعيان وبعضها الآخر خفي وراء الكواليس . نسعى لتقديم تحليل شامل يجمع بين العوامل الرئيسية والخفية التي شكلت المنطقة في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ البشرية .
- المصالح الاستعمارية والتقسيمات الجغرافية :
كان للقوى الاستعمارية الأوروبية ، وخاصة بريطانيا وفرنسا ، دور محوري في رسم حدود الدول الجديدة . حيث مثلت اتفاقية سايكس-بيكو عام (1916) الإطار العام لتقسيم مناطق النفوذ . ومع ذلك ، فإن الشبكات الاستخباراتية والدبلوماسية السرية لعبت دوراً خفياً في صياغة هذه السياسات . شكلت تقارير عملاء مثل توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) مرتكزاً لصناع القرار في لندن وباريس . - المشروع الصهيوني ووعد بلفور :
وعد بلفور عام (1917) كان خطوة هامة نحو إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين . لكن وراء هذا الوعد العلني ، كانت هناك مفاوضات سرية وضغوط من جماعات النفوذ الصهيونية في أوروبا وأمريكا لتجسيد هذا المشروع على ارض الواقع . إن الوثائق التي كُشف عنها لاحقاً تظهر مدى تعقيد العلاقات بين الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية حينها . - الحركات القومية العربية والصراعات الداخلية :
الثورة العربية الكبرى (1916) بقيادة الشريف حسين بن علي كانت محاولة لتأسيس دولة عربية موحدة . لكن الخلافات بين القوى المحلية والصراعات الطائفية والعرقية أثرت بشكل كبير على تشكيل الحدود وتحقيق هذا الطموح . على سبيل المثال ، الصراعات بين السنة والشيعة في العراق ، ومطالب الأكراد بالحكم الذاتي ونشوء الصراع العربي )الفلسطيني) /الصهيوني كلها لعبت دوراً مهماً في رسم الخريطة السياسية للمنطقة . - الاعتبارات الاقتصادية والنفطية :
اكتشاف النفط غيّر من حسابات القوى الكبرى . شركات النفط الغربية مثل شركة النفط ( الأنجلو- فارسية BP ، رويال دوتش شل Shell ، شركة النفط الفرنسية التي أصبحت Total و مجموعة من الشركات الأمريكية التي شكلت لاحقاً شركتي & Exxon Mobil ، كان لها الدور الأبرز في تشكل السياسات وصناعتها . اتفاقية الخط الأحمر (1928) مثلت تقسيماً للموارد النفطية بين القوى الغربية ، مما أثر بشكل مباشر على رسم الحدود وتشكيل الكيانات السياسية حسب تفاهمات ومبدأ توزيع المنافع بين القوى الفاعلة في مناطق النفوذ التي شملت ( العراق ، سوريا ، الأردن ، لبنان ، الأراضي الفلسطينية والسعودية باستثناء المنطقة الشرقية والكويت ) .
ان اتفاقية الخط الأحمر تعتبر من اهم الاسس التي تقودنا الى إدراك العوامل المعقدة التي شكلت التاريخ الحديث للشرق الأوسط . - الإرث العثماني والشبكات التجارية القديمة :
رغم انهيار الإمبراطورية ، استمر تأثير التقسيمات الإدارية العثمانية القديمة على الحدود الجديدة . كما أن الشبكات التجارية والاقتصادية التي نشأت خلال العهد العثماني استمرت في التأثير على العلاقات بين المناطق المختلفة ، مشكلة أساساً للروابط الاقتصادية الجديدة . - الصراعات الداخلية في الحكومات الغربية :
كانت هناك خلافات داخل الحكومات البريطانية والفرنسية حول كيفية التعامل مع المنطقة . الصراع بين وزارة الخارجية البريطانية والمكتب الهندي حول السياسة المنوي نهجها في الخليج العربي ، على سبيل المثال ، أثر بشكل كبير على القرارات المتخذة . - التأثير الثقافي والفكري :
انتشار الأفكار القومية والحداثية في المنطقة ، من خلال البعثات التعليمية والصحافة ، لعب دوراً في تشكيل الهويات الوطنية الجديدة وتسطيرها . مجلات مثل “المنار” لمحمد رشيد رضا كانت من المنابر المهمة للأفكار الإصلاحية والقومية ، مؤثرة على الوعي السياسي في المنطقة .
- الخطط الإستراتيجية طويلة المدى :
كانت هناك خطط إستراتيجية بعيدة المدى وضعتها القوى الكبرى . مشروع “حزام القوس” البريطاني والنقطة الرابعة ، الذي هدف إلى إنشاء سلسلة من الدول الحليفة من الهند إلى البحر المتوسط ، أثر بشكل كبير على تشكيل المنطقة وترسيخ النفوذ البريطاني فيها . - التنافس الاستعماري الخفي :
رغم التحالفات الظاهرة ، كان هناك تنافس خفي بين القوى الاستعمارية . محاولات إيطاليا وألمانيا للحصول على موطئ قدم في المنطقة دفعت بريطانيا وفرنسا لاتخاذ إجراءات استباقية في بعض المناطق فيما اتجهت إيطاليا الى الشمال الافريقي . - تأثير الأزمات الاقتصادية العالمية :
أثر الكساد الكبير في الثلاثينيات على السياسات الاستعمارية وقدرة الدول الغربية على الاستمرار في السيطرة المباشرة ، مما أدى إلى تغييرات في أشكال الحكم والسيطرة في بعض المناطق لتخدم مشروع الاحلال والتوطين.
في الختام، فإن إعادة تشكيل المنطقة بعد العهد العثماني كانت نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل متعددة ، بعضها ظاهر وبعضها خفي . بينما كان للمشروع الصهيوني والمصالح الاستعمارية دور بارز ، فإن العوامل الاقتصادية ، الصراعات الداخلية ، التأثيرات الثقافية والفكرية ، والخطط الإستراتيجية طويلة المدى كلها ساهمت في تشكيل الواقع الجيوسياسي للمنطقة .
وفهم هذه العوامل مجتمعة يساعدنا على إدراك التعقيدات التاريخية التي شكلت الشرق الأوسط الحديث ، ويوفر إطاراً أفضل لفهم التحديات المعاصرة التي تواجهها المنطقة وكيفية صناعة القرار وإدارته .