الفـساد العميق والاصلاح السـطحي
د. قـــدر الدغمــي
نظرياً .. الفساد السياسي يُقصد به باختصار شديد “الانحراف بالأسس وبالمبادئ والأهداف والتوجهات التي يبينها القانون المنظم لوظائف أية شخصية اعتبارية “، أكانت هذه الشخصية الاعتبارية هي الدولة أو الحكومة أو وزارة أو مؤسسه أو هيئة أو حتى منظمة مجتمعية أو تعاونية، هذا هو الجانب النظري ، أما على الجانب العملي ، فممارسة الفساد تتخذ عدة اشكال وصور، احيانا يكون الفساد أسود، حينما يكون مستهجناً ومرفوضاً من قبل غالبية أفراد المجتمع، واحيانا أخرى يكون رمادياً، عندما يكون مقبولاً ومرفوضاً من البعض، ويكون أبيض عندما يكون مقبولاً من قبل أغلبية أفراد المجتمع.
وفي السياسة ايضا يوجد هناك مفهوم يسمى “الدولة العميقة”، وهي تعني شبكة العلاقات المهيمنة على مؤسسات الدولة ومفاصلها، والتي لا تخضع لتبدل من هم في سلطات الدولة، وهذا المفهوم مهم جداً لفهم الفساد العميق، فتبديل بعض الاشخاص لا يعني غير تبديل وجوه الفساد السطحي، فالفساد العميق لا يمكن علاجه من خلال ضرب الفساد السطحي، الفساد العميق يتكون من شبكة مقاولين وموظفين ورؤساء اقسام ومدراء ومدراء عامين وأمناء عامين ووزراء ونواب متنفذه تستطيع التجنيد والتهديد والابتزاز لمصالحها، أذاً لا يمكن التخلص من الفساد العميق بدون ثورة اخلاقية في بنية المجتمع، تستطيع من خلالها انتاج مبادئ وقيم سياسيه جديدة وتستطيع خلق حالة وطنية تحاصر المنظومة كاملة، وتراقب وتحد من نفوذها في مؤسسات الدولة بشكل عام.
ان المعركة ضد الفساد العميق هي من اصعب انواع المعارك، بل هي اصعب من المعركة ضد أي عدوان على الوطن، لأن العدو فيها متخفي وغير واضح، ولأنها قائمة على تحالف بين قوى، المال والسلطة وجنود الوظيفة هنا وهناك، ولها اتباع هي وجمهور داعم من المتنفعين والمتكسبين منها، لذا دعوات الإصلاح غالباً ما تتحول الى جزء من منظومة الفساد، لأن الفساد العميق يخترق صفوفها ويغريها بالمكاسب والمال ولا طريق للإصلاح سوى بتغير قيم المجتمع بداية من عدم احترام الفاسد والتزلف له مهما كان نفوذه وامواله ومهما على شأنه ،فمحاربة الفساد تختلف بحسب أهلية ومقدرة ومفهوم المجتمع والأنظمة وتعرفيها وتشخيصها للفساد نفسه ، فقد يحدث أن تنحصر المعالجة عبر محاربة الخصوم فقط باسم محاربة الفساد.
فالتذمر والحديث عن محاربة الفساد لا يعبر عن إرادة الاصلاح، بل وسيلة للتنصل والهروب، فالفساد العميق أكثر ما يستبيح الدستور والقانون والنظام وكل القيم الأخلاقية، ومحاربة الفساد عشوائيا وبشكل سطحي ما هي إلا عملية ” إلهاء” للناس عن المعركة الحقيقة التي يجب أن تكون معركة حاسمة ضد الفساد ومنابعه ومشاربه.