
الفن وضرورة تحييده عن الصراعات نحو مفهوم “العلمانية الفنية”
فداء الحمزاوي
في كل مساحة يلتقي فيها الفنانون، سواء في مهرجان، أو عرض مسرحي، أو فعالية إبداعية، يبرز مشهد نقي يعكس جوهر الفن الحقيقي، حيث تتقدّم المحبة على الخلافات، وتعلو المشاعر الإنسانية على الهويات الضيقة، ويظهر التقدير الصادق للجهد، والدعم المتبادل بعيدًا عن أي اعتبارات سياسية أو دينية، هناك يصبح الإنسان مرآة لجوهره، ويعود الفن إلى أصله، لغة تجمع، لا تفرّق.
ومع ذلك، كثيرًا ما يُدفع الفن إلى ميادين لا تشبهه، ويُزجّ بالفنان في صراعات سياسية أو دينية ليست من رسالته، فيُحمَّل ما لا يحتمل، ويُفقد الفن شيئًا من صفائه. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى طرح مفهوم جديد، يشبه العلمانية من حيث مبدأ الفصل، لكنه يختص بمجال مختلف تمامًا، ويمكن تسميته “العلمانية الفنية”، وهو مفهوم يهدف إلى فصل الفن عن الخلافات السياسية والدينية بين الفنانين، وصون الساحة الإبداعية من التحزّبات التي تشوّه روح العمل الفني.
وهذا الفصل لا يعني بحال من الأحوال أن يتخلى الفنان عن وطنه، أو أن يمتنع عن الدفاع عن قضاياه العادلة، أو أن يفقد صوته الأخلاقي في اللحظات الإنسانية الكبرى، فالفنان بطبيعته ابنُ وطنه وضميرُ مجتمعه، وصوته جزء من الذاكرة الثقافية للشعوب، لكن المقصود هنا هو حماية العلاقات بين الفنانين أنفسهم من أن تتحوّل إلى انعكاس لصراعات سياسية أو دينية لا علاقة لها بالإبداع، بحيث يبقى التعاون والتنافس الشريف فوق كل انقسام، ويبقى الفن مساحة لقاء لا ساحة خصام.
“العلمانية الفنية” ليست مشروعًا فكريًا مجردًا، بل إطارًا يحفظ للفن استقلاله، ويحميه من الاستخدام الذي يخرجه عن رسالته، ويضمن للمتلقّي أن يتذوّق العمل دون تشويش أو توظيف، وهي أيضًا مظلة أخلاقية تحمي الفنان من الضغوط التي تُفرَض عليه باسم الموقف أو الهوية، وتحمي الساحة الفنية من الانزلاق إلى صراعات لا تخدم أحدًا.
إن المشهد الذي نراه في المهرجانات الفنية يكفي وحده للدلالة على قيمة هذا المفهوم، فهناك تقف المواهب جنبًا إلى جنب، تتنافس بروح نظيفة، وتفرح لنجاح بعضها، وكأن الفن يعيد الإنسان إلى طبيعته الأولى، حيث الإبداع معيار، والجهد قيمة، والإنسانية لغة تجمع الجميع.
الفن يسمو حين يُترك حرًا، ويُخلَّد حين يحافظ على نقائه، وفصله عن الخلافات السياسية والدينية بين الفنانين يمنحه القدرة على أن يبقى رسالة إنسانية شاملة، تتجاوز حدود الانتماء، وتمنح الإنسان فرصة للتلاقي بعيدًا عن كل ما يشتت أو يفرّق.







