واحة الثقافة

“عطيل وبعد” إعادة قراءة مسرحية بعين معاصرة بين عالم الأحياء وعالم الأرواح

الشاهين الإخباري-فداء الحمزاوي
تصوير-نجلاء الصباح

«عطيل وبعد» عمل تونسي جريء أعاد تفكيك واحدة من أشهر المآسي في الأدب العالمي، ليقدّمها من منظور معاصر يمزج بين البعد الإنساني والرمزي والفلسفي، ويعيد طرح السؤال الأزلي حول الخيانة والحب والسلطة والذاكرة. المخرج حمادي الوهايبي، بمساعدة ريم الحمروني، قدّم نص بوكثير دومة المستوحى من شكسبير في قراءة تتجاوز إعادة العرض الكلاسيكي إلى مشروع تأملي يحاكم التاريخ الأدبي من جديد، جاء العرض ضمن فعاليات مهرجان الأردن المسرحي في دورته الثلاثين دورة الفنان الراحل أشرف طلفاح، مقدماً تجربة فنية مكتملة العناصر تُحاكي الروح وتستنطق الذاكرة.

الديكور جاء مختزلاً بذكاءٍ في خلفيات شاشةٍ رقميةٍ تملؤها السماء بالنجوم، وسلّمين حديديين على أطراف الخشبة، في بناء بصري بسيط لكنه كثيف المعنى، يفتح الفضاء على بعدين متوازيين، عالم الأحياء وعالم الأرواح، هذا التقشف الجمالي أتاح للضوء والحركة والموسيقى أن تتصدر المشهد، فكانت الموسيقى التي وضعها زياد شقواي خليطًا بين النغمة البوهيمية والأنغام العربية، ترسم الانتقال من الرومانسية إلى الغضب، ومن الطقس إلى العاصفة النفسية.

افتتح العرض برقصة حالمة بين شاب وفتاة تحت سماءٍ مرصعة بالنجوم، بينما صوت الراوي يحكي عن عصفورين جمعهما العشق وفرقتهما الغيرة، ومع دخول الشخصيات تباعًا، تتبدل الإيقاعات ويتحول المشهد من رقصة حب إلى مسرحٍ للشك، لتبدأ رحلة الصراع بين الحقيقة والوهم. لم يعد «عطيل» هنا مأساة رجلٍ يقتل حبيبته فحسب، بل رمزًا لإنسانٍ يبحث عن ذاته وسط ضجيج العالم وعن حبٍّ نقيٍّ لم تلوثه الأوهام.

الأداء الجماعي للممثلين مهذب الرميلي، فاتن الشوايبي، محمد خوجة، إباء الحملي، بهرام العلوي، نور الدين الهمامي، سامية بوقرة، وبمساهمة أحمد الماجري أضفى على العرض حيويةً آسرة، حيث تحولت الجمل إلى لوحاتٍ جسدية تنبض بالعاطفة والاضطراب، كل ممثلٍ بدا كأنه يحمل ذاكرةً تخصه، لكنه في الوقت ذاته يذوب داخل المجموعة ليخدم الفكرة الكلية، كانت الطاقة على الخشبة أشبه بموجةٍ تتصاعد وتهدأ، تتراقص بين الغضب والانكسار، بين الحب والخذلان، في توازنٍ نادر بين الإلقاء والتعبير الجسدي.

الإضاءة والصوت من تصميم صبري العتروس، وليد عصايدي، وصادق القيزاني شكّلت لغة موازية للنص، فأحيانًا تضيق الإضاءة لتكثّف العزلة، وأحيانًا تتسع لتحتضن العالم بأسره. أما الملابس من تصميم مامية بن يحيى فقد جاءت امتدادًا للخط الرمزي العام، الأبيض والأسود، الطهارة والخطيئة، الماضي والحاضر، كان الفضاء المسرحي يتحرك تحت إدارة خشبة دقيقة لـ شيماء بن سعيد، وبإنتاج متقن أشرفت عليه بسمة الهادفي، بينما تولّت شيماء رحاولية وريان سلام تصميم الرقصات بمشاركة قيس بولعراس، فحوّلوا الحركة إلى لغةٍ بديلةٍ عن الحوار، وإلى شعرٍ بصريٍّ يوازي النص.

لم يكن هدف العرض استحضار شكسبير فحسب، بل محاورته، فـ” عطيل وبعد” يقلب النهاية رأسًا على عقب، لا تموت ديدمونة، بل تُمنح حياة جديدة لتكون رمزًا للتطهّر والمغفرة، وتتحول المأساة إلى فرصة للصفح وإعادة البناء، بهذا المعنى، يتحول العمل إلى نداءٍ إنساني صريح ضد العنف، وضد الأحكام المسبقة التي نُصدرها باسم الحب أو الشرف.

“عطيل وبعد” هو أكثر من عرض مسرحي، إنه بيان فني يعيد كتابة التاريخ بمفردات معاصرة، حيث لا يُقتل الحب بل يُنقذ، ولا يُدان العاشق بل يُفهم، ولا يُختتم النص بالموت، بل بالحياة، لندرك أن المسرح ما زال قادرًا على تغيير النهايات.

زر الذهاب إلى الأعلى