
المدينة الوردية… حين نعود لنتأمل لا لننبهر
فداء الحمزاوي
الزيارة الأولى للبتراء تشبه اللقاء الأول مع الحلم، لا نرى منه سوى أكثر صوره بهاءً، كنا في تلك المرة، نركض بشغف الأطفال نحو الخزنة، نُسرع الخطى داخل السيق الطويل، لا نكاد نلتفت لجمال الصخور المتدرّجة بالألوان، ولا نتوقف أمام النحوتات التي تحرس الطريق كحراس من زمنٍ غابر.
كنا ننتظر اللحظة التي تنكشف فيها الخزنة فجأة أمامنا، كما لو أننا نرى معجزة تولد من رحم الصخر. يومها، لم نكن نرى إلاها، وكأن كل ما يسبقها مجرد ممرٍ لا بد منه للوصول إلى العظمة.أما هذه المرة، فشيء فينا تغيّر، عدتُ إلى المدينة الوردية ومعي صديقان، أحدهما تونسي يراها للمرة الأولى، يحمل في عينيه ذاك الوهج الذي كنا نحمله يوم زرناها أول مرة، والآخر صديق تشاركنا من قبل دهشة اللقاء الأول مع البتراء كلً على حدى، فجئنا هذه المرة وقد هدأ فينا الصخب، واتسعت الرؤية.
صديقي التونسي كان يلهث شوقًا لرؤية الخزنة، يكرر السؤال عن المسافة المتبقية، يلتقط الصور عند كل منعطف، وينتظر أن تظهر تلك التحفة المنحوتة في الصخر. كنا أنا وصديقي الآخر نتبادل النظرات، نضحك بخفة، ونتوق لرؤية ردة فعله حين يراها لأول مرة.
وعندما اقتربنا من اللحظة الحاسمة، طلبنا منه أن يُغمض عينيه، وأمسكنا بيده نقتاده بين الصخور الوردية بخطوات متأنية، حتى وصلنا إلى النقطة التي تُطلّ منها الخزنة كسرٍّ من أسرار الجبل، هناك فتح عينيه، فغمره الذهول، وقف صامتًا لثوانٍ، وكأنه أمام حلم تجسّد من حجر، بينما كنا نوثّق اللحظة بالكاميرا، نحفظ في ذاكرتنا ملامح وجهه المندهش، ونغمره بمشاعر مختلطة بين الفرح لشغفه، والحنين لدهشتنا الأولى، والامتنان لأننا نعيشها من جديد من خلاله.
أما نحن، فكانت الخزنة بالنسبة لنا هذه المرة أكثر من وجهٍ جميل للبتراء، كنا نراها بعيونٍ تعرف الطريق إليها، بقلوبٍ أكثر هدوءًا وتفكرًا، عندها بدأ صديقي المهندس، الذي يزورها للمرة الثانية، يشرح بعينٍ هندسية دقيقة عظمة النحت بهذه الطريقة، كان يتحدث عن دقة الزوايا، وتناسق الأعمدة، وكيف استطاع الأنباط أن ينحتوا هذا الجمال في قلب الجبل بأدواتٍ بسيطة وبفكرٍ عظيم، كنا أنا وصديقنا التونسي نقف بجانبه نستمع بانبهار، نحاول أن نرى ما يراه هو بعين المهندس، أن نفهم كيف امتزج في هذا المكان عبقرية الإنسان بعظمة الخالق، وكيف اجتمع الفن والهندسة في صخرةٍ واحدة لتغدو معجزة أبدية.
في تلك اللحظة، اجتمع فينا التأمل والإعجاب، الإيمان بعظمة الخالق، والانبهار بإبداع المخلوق، التقطنا الصور، نعم، لكننا التقطنا أيضًا ما هو أعمق منها، لحظة وعيٍ صافية بأن الجمال الحقيقي لا يُرى دفعة واحدة، بل يُكتشف كلما اقتربنا منه بعينٍ جديدة، وروحٍ أصفى.
في البتراء تعلمت أن الجمال لا يُستهلك، بل يُكتشف على مهل، وأن العودة إليها ليست تكرارًا، بل ترقٍ في الرؤية، هناك بين الصخور الوردية، وجدت أن لكل زيارة معنى جديدًا، وأن الخزنة، مهما بدت مقصد الرحلة، ليست النهاية، بل البداية الحقيقية لاكتشاف ما فينا نحن من دهشةٍ، ومن حنينٍ لا يشبع من الجمال.







