
الدراسة النقدية لمسرحية «ضوء» ـ ( السعودية)
ضوء ….بحث عن الذات في عالم العبث
نقد مسرحي : دعاء مأمون
تصوير : نجلا الصباح
منذ اللحظة الأولى لظهور العنوان «ضوء» على الملصق المسرحي، يتبدّى أن العمل يذهب إلى منطقةٍ فلسفيةٍ حساسةٍ، لا تبحث عن الإجابة بقدر ما تُثير السؤال. الضوء في جوهره ليس مادّة بقدر ما هو حالة من الكشف، فعلُ انبثاقٍ من العتمة نحو الفهم، ومن الجهل نحو المعرفة، ومن الذات الغارقة في غياهبها إلى لحظة استنارةٍ داخليةٍ عسيرة المنال. لذلك، لم يكن غريبًا أن يأتي العرض محمّلاً بثقلٍ تأويليٍّ يتجاوز حدود الحكاية إلى تأملٍ ميتافيزيقيٍّ في معنى الوجود الإنساني ذاته.
النصّ الذي كتبه فهد رده الحارثي والمُنجز إخراجيًا على يد أحمد محمد الأحمري لصالح فرقة مسرح الطائف السعودية، جاء ضمن مهرجان الأردن المسرحي الثلاثين، في عرضٍ أثار جدلًا نقديًا واسعًا، وتباينًا حادًا في تلقيه بين من رأى فيه مغامرة تجريبية ناضجة، ومن عدَّه عملًا غامضًا لم يُفلح في إيصال فكرته للجمهور.
تقوم المسرحية على بنيةٍ شبه فارغةٍ من العناصر الزخرفية، إذ اعتمد المخرج على أدوات بسيطة جدًا في تصميم الفضاء المسرحي: سرير، طشت غسيل، وتنكه فارغة. لكن ما فعله بهذه العناصر كان لافتًا؛ فالسرير تحوّل إلى جدارٍ وسجنٍ وحدٍّ فاصلٍ بين عالمين، والطشت استُخدم في الغسيل ثم في الطبل، بينما تحولت التنكة الفارغة إلى مقعدٍ مؤقتٍ أو وسيلةٍ صوتيةٍ تُحدث جرسًا معدنيًا يوحي بالصدى الداخلي للعزلة. هذه العناصر القليلة صارت رموزًا، لا أدوات، إذ حمّلها المخرج دلالاتٍ نفسيةً ووجوديةً تتبدّل مع تبدّل المشهد، فكانت لغة بصرية بحدّ ذاتها.
الإضاءة – التي كانت العنصر الحاكم في العرض – لم تكن وسيلةَ إضاءةٍ بالمعنى التقني، بل تحوّلت إلى بطلٍ مرافقٍ للحدث. لم تُستخدم المؤثرات البصرية الرقمية، بل اعتمد المخرج على الإضاءة المتغيرة في شدّتها واتجاهها لتصوغ أجواء النص. أحيانًا كانت تضيء فوق الرؤوس كعلامة وعيٍ أو تجلٍّ، وأحيانًا تأتي من الخلف لتصنع ظلالًا تتكلم أكثر مما تفعل الأجساد. وفي لحظاتٍ حاسمةٍ، كان الممثلان نفسيهما يشعلان عود ثقاب أو شمعةً صغيرةً، فيتولد بذلك ضوءٌ حقيقيٌّ نابض، هو تجسيد مباشر لرمزية العنوان: الضوء هنا ليس أداة، بل حالة، وموقف وجودي، ورمزٌ للأمل الذي لا يُستعار من الخارج بل يُخلق من الداخل.
الإيقاع العام للعرض كان متأملًا، بطيئًا نسبيًا، يميل إلى الرتابة المقصودة التي تُحاكي تكرار الإنسان في دوامة البحث عن ذاته. لم يكن العمل ساعيًا إلى الإمتاع الحسي أو التشويق السردي، بل إلى إشراك المشاهد في تجربة تأمليةٍ تستفزه فكريًا. وربما هنا تكمن المفارقة التي جعلت الجمهور يخرج في حالة من الالتباس؛ إذ لم يتلقَّ الجميع العمل بذات الحساسية، فالكثيرون لم يفهموا تمامًا ما أراده المخرج، لكنّ آخرين رأوا في هذا الغموض ذاته جزءًا من متعة العرض، لأن العبث المسرحي – كما هو معروف – لا يمنح المعنى، بل يدعو إلى البحث عنه.
من زاوية الأداء، حافظ الممثلان على حضورٍ متماسكٍ في أغلب المشاهد، وإن كان الأداء يتراوح بين مقاطع ذات صدق واقعي، وأخرى يغلب عليها الطابع الرمزيّ والتأمل الداخلي. غابت التفاعلات الجسدية القوية المبالغ فيها، وحضر بديلها الإيماء البطيء والحركة المنضبطة التي تراعي التوازن بين الجانبين الفيزيقي والنفسي. كانت الحركات محسوبة، مقسّمة بين منطقتين متقابلتين من الخشبة، يفصل بينهما السرير بوصفه نقطةَ التقاءٍ وصدامٍ في الوقت ذاته، وكأن الفضاء المسرحي كله ينقسم بين ذاتٍ ومرآتها، بين الأنا وظلّها، بين نصفين لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر.
أما لغة الحوار، فقد جاءت متسقةً مع زمن النص ومكانه وشخصياته. استخدم الكاتب لغةً قريبةً من الفصحى الموشاة بالعامية عند الضرورة، فجاءت الكلمات طبيعيةً غير مفتعلة، لكنها كانت محمّلةً بالرموز الفلسفية التي تتطلّب تركيزًا من المتلقي. أحد أكثر المقاطع تعبيرًا عن فلسفة النص هو ذاك الذي يقول فيه أحد الممثلين: «لا أستطيع أن أنام على مخدة غيري، ولا غيري ينام على مخدتي، لأنه سيشاركني أحلامي». هذه الجملة، على بساطتها الظاهرية، تكشف عمق العزلة الوجودية التي يطرحها العرض: رفض المشاركة حتى في الحلم، لأن الحلم هو آخر حصون الذات.
الموسيقى في المسرحية لم تكن مقاطع جاهزة بقدر ما كانت أغنياتٍ يؤديها الممثلان نفسيهما ضمن السياق الدرامي، وكأن الصوت الإنساني هنا هو الآلة الوحيدة الممكنة في هذا الفراغ الكوني. أما المؤثرات الصوتية الأخرى، كصوت العربة أو الصدى المعدني للأدوات، فقد جاءت دقيقةً في توقيتها وموقعها، خادمةً للعرض لا طاغيةً عليه.
من جهة البناء الدرامي، اتسم العمل بغياب الحبكة التقليدية الواضحة. فالنص ينتمي إلى المسرح العبثي، حيث تبدأ الأحداث من نقطةٍ لا بداية لها وتنتهي عند نقطة البدء ذاتها، وكأن الزمن دائرة مغلقة لا فكاك منها. هذه التقنية ليست عبثًا بلا غاية، بل وسيلة لإبراز فكرة الضياع الإنساني والبحث المستمر عن المعنى في عالمٍ فقد بوصلته. إلا أن الإخراج – رغم وعيه بهذه الفلسفة – لم ينجح دومًا في ترجمتها بصريًا، إذ كانت بعض الحركات غير مدروسة، وبعض الانتقالات بين المشاهد تفتقر إلى السلاسة، ما أدى إلى لحظاتٍ من الإرباك البصري والذهني لدى المتلقي.
الجمهور لم يتفاعل كثيرًا، ليس لضعف الأداء، بل لأن النص نفسه يحتاج إلى جهدٍ ذهنيٍ كبيرٍ لفهم طبقاته التأويلية. بعد العرض، وفي الندوة النقدية، اتضح أن معظم الحاضرين لم يتمكنوا من تفكيك رموز العمل أو إدراك مغزاه العميق، فيما اكتفى بعضهم بالضحك على نكاتٍ عابرةٍ لم تضف إلى الجوهر شيئًا. هذا يشير إلى فجوةٍ واضحةٍ بين نية المخرج الفكرية ومستوى التلقي العام، وهي فجوةٌ تعاني منها الكثير من العروض التجريبية العربية المعاصرة التي تتعامل مع الجمهور كمتفرّجٍ مثقفٍ مُدربٍ على التلقي الرمزي، بينما الواقع غالبًا غير ذلك.
في المقابل، لا يمكن إغفال الطاقة المهولة التي يحملها العرض في داخله. ثمة شحنةٌ إبداعيةٌ مكثفةٌ واضحةٌ في تصميم المشاهد، في طريقة إشعال الضوء، في توظيف الجسد كأداة تفكير لا كأداة تمثيل. لكن هذه الطاقة ظلت – كما أشارت بعض القراءات النقدية – مهدورةً جزئيًا، لأنها لم تُستثمر ضمن مسارٍ دقيقٍ من البناء التصاعدي نحو ذروةٍ دراميةٍ واضحة. بدا العمل وكأنه ينفتح على احتمالاتٍ كثيرةٍ دون أن يحسم اتجاهه، وهذا ما جعل ذروته وانكساره غير محددين بوضوح.
مع ذلك، فإن جوهر الفكرة – البحث عن الذات، عن الضوء الداخلي – يظل من أنبل القضايا التي يمكن للمسرح أن يتناولها، لأنها تمسّ الإنسان في عمقه الوجودي. لقد حاول المخرج أن يُسقط العبث الكوني على الحياة الشخصية، وأن يجعل من المواجهة بين الذات وذاتها لحظةَ تجلٍّ وإعادة خلقٍ للوعي، وهي محاولة طموحة تُحسب له، حتى لو لم تكتمل بصريًا وفنيًا كما يجب.
في ما يتصل بعلاقة العمل بمدارس المسرح الحديثة، فإن «ضوء» تقترب من روح ما بعد الكولونيالية في الوعي الفني العربي، إذ تحاول – بوعيٍ واضح – الإفلات من سلطة المركز الغربي في الشكل والمضمون، لتخلق لغتها الذاتية المستندة إلى ثقافتها المحلية. فالمخرج لم يستعِن بمفردات أوروبية أو رموز أجنبية، بل اعتمد على مواد بسيطة مألوفة في البيت العربي، وأعاد توظيفها برؤيةٍ حداثيةٍ تتكئ على ثقافةٍ محليةٍ خالصة. هذا التوجه يعبّر عن رغبةٍ في بناء هويةٍ مسرحيةٍ عربيةٍ مستقلة، وهو ما يجعل العرض، رغم عثراته، خطوةً جادةً في مسار التجريب العربي الأصيل.
تتحرر «ضوء» من عبء التنميط، فلا تقع في فخ الخطابة أو الافتعال، لكنها في المقابل تدفع ثمن هذا التحرر بقدرٍ من الغموض قد لا يحتمله المشاهد العادي. إلا أن الغموض هنا ليس عيبًا بحد ذاته؛ فالنص المسرحي العبثي لا يُفهم بقدر ما يُستشعر. هو تجربة حسّية وفكرية ينبغي أن تُعاش لا أن تُحلّل لحظيًا. لذلك، حين ينتهي العرض ويخفت الضوء الأخير، يبقى في ذهن المتفرج سؤالٌ معلّق: هل وجد البطل ضوءه؟ أم أن الضوء كان سرابًا داخليًا لا يُدرك؟ هذا السؤال – وليس الإجابة – هو ما يجعل العرض ناجحًا من منظور فلسفة العبث ذاتها.
أخيرًا، يمكن القول إن «ضوء» عملٌ يمتلك جميع مقوّمات العرض التجريبي الجاد: نصٌ فلسفيٌّ شائك، إخراجٌ واعٍ لرمزيته، أداءٌ ملتزمٌ بالحضور الجسدي، وإضاءةٌ هي الشخصية الثالثة في المشهد. لكنه يحتاج إلى إعادة ضبطٍ في الإيقاع وتكثيفٍ في العلاقة التواصلية مع الجمهور. فبين الفكرة الكبيرة والتنفيذ العملي مسافةٌ دقيقةٌ لا بد من ردمها بحسٍّ إخراجيٍّ أكثر اتزانًا، وإحساسٍ بضرورة جعل التجريد وسيلةً للإيصال لا حاجزًا دونه.
لقد خرج كثير من الجمهور وهم لا يفهمون العرض تمامًا، لكنّ ذلك لا يُنقص من قيمته الفنية، بل يؤكد أنه عمل يتطلب قراءة ثانية وثالثة. المسرحية ليست للمتعة العابرة، بل للتفكير البطيء بعد انتهاء المشاهدة. وربما هذه هي المفارقة التي أرادها المخرج: أن يكون الضوء نفسه عصيًا على الفهم، لأن لحظة الفهم هي في جوهرها لحظة ضوء.
بهذا المعنى، تظل «ضوء» مغامرةً فكريةً جريئةً في المسرح العربي المعاصر، تضع الإنسان أمام مرآته، وتدعوه لأن يصنع ضوءه بيده، لا أن ينتظره من الخارج. عرضٌ يشهد لفرقة مسرح الطائف بقدرتها على طرح الأسئلة الوجودية الكبرى بلغةٍ مسرحيةٍ محليةٍ، ويُحسب لمهرجان الأردن المسرحي أنه قدّم مساحةً لمثل هذه التجارب التي تُعيد تعريف معنى المسرح ذاته: ليس كأداة ترفيه، بل كفضاء بحثٍ عن الذات، عن الضوء، وعن الإنسان.














