أقلام حرة

البسوس من جديد.. حين يتكرر الغرور بثيابٍ معاصرة

بشار عبدالمجيد المجالي

أغلبنا شاهد المسلسل التاريخي الزير سالم، تلك التحفة الدرامية السورية التي جسدت الأدوار بعبقرية وفن مبدع يجعلك تعيد المشهد مرات عديدة لتستوعب مادار فيه من بلاغة في اللغة واحتراف في الأداء، جعلتك تقف بجانب كليب حين طعن البسوس، وتموت قهرًا وأنت ترى الزير يقتل جُبيرًا ، دراما خيالية جعلتك في خلوتك تكرر عبارة الزير سالم الشهيرة: يا لثارات كليب!، وكأنك أحد أبناء تلك القبيلة التي اشتعلت فيها النار ولم تنطفئ. في أحد الحوارات التي حفرت في الذاكرة، نرى القامة التمثيلية الكبيرة خالد تاجا وهو يجادل كليبًا، ويبلغه بأنه لا طاعة له عليه، فلا طاعة لرجل لا تهمه كرامة قومه. جملة بليغة تختصر فلسفة القيادة والشرف، لكن كليبًا ردّ عليها بردٍ سطحي، يحمل في ظاهره سخرية وفي عمقه جبروتًا وتفردًا، قائلاً: أتقف مع النوق ضدي؟، وكأن كل من خالفه الرأي عدوٌّ وجب إخضاعه.
ذلك الرد لم يكن مجرد جملة عابرة في مشهد درامي، بل كان شرارة في تاريخٍ من النار. قرارٌ متهور واحد أشعل حربًا امتدت لأربعين سنة، قُتل فيها من قُتل، وشُرّد فيها من شُرّد، وضاعت فيها البوصلة حتى صار الأخ عدوًّا لأخيه، وابن العم يرفع سيفه في وجه ابن خاله. حرب البسوس لم تكن إلا مرآة لطغيان الغرور، حين يتحول القائد من حامٍ للكرامة إلى متضخم بالذات، يظن أن الحق لا يُعرف إلا بما يراه هو.
تلك القصة القديمة لم تذهب مع الزمن، بل ما زالت تتكرر كل يوم بثيابٍ جديدة، وأسماء مختلفة. الغرور والجبروت ذاته، الوسائل تغيرت فقط. اليوم، ونحن نعيش عصر التقنية والاتصال السريع، يمكن لقرارٍ واحدٍ متهور، أو تغريدةٍ يكتبها صاحب سلطة أو نفوذ، أن تشعل نار الفتنة بين الشعوب، تماماَ كما أشعلت ناقة البسوس حربًا بين قبيلتين. لم يعد السيف وسيلة الحرب، بل الكلمة والموقف، والغرور ذاته هو المحرك من الخلف.
كم من مسؤولٍ أو قائدٍ في عالمنا اليوم يرى نفسه فوق النقد، وفوق صوت العقل، فيُقصي من حوله، ويستفز الجميع بتسلطه، ثم يتحدث عن “الهيبة” وهو في الحقيقة يهدم أركانها. وكم من صاحب قرارٍ يرى في الخلاف خيانة، وفي المشورة ضعفًا، فيختنق صوته داخل ذاته حتى ينفجر غروره في وجه الجميع. هؤلاء لا يدركون أن التاريخ لا يعيد نفسه صدفة، بل يكرر دروسه لمن لم يتعلم.
في عصرنا الحديث، نرى صور البسوس تتوالى على شاشات الأخبار، بين شعوبٍ تشتعل بينها الفتن باسم الكرامة، وبين قادةٍ يتحدثون بلسان القوة وهم في الحقيقة أسرى خوفهم من فقدان السيطرة. نسمع التهديد والوعيد وكأن العالم سُخِّر لهم، فتارةَ يهددون بفتح أبواب الجحيم وتارةَ بإعطاء مهلٕ محددة لأقوام في أرضهم ليهجروها وما علموا أن ربًّا عادلًا قد سنّ سنن الكون فلا يدوم جبار، ولا يُخلّد متغطرس.
الغرور مرضٌ يصيب العقول قبل الأجساد، يجعل صاحبه يرى العالم من شرفة ذاته، فلا يسمع إلا صوته ولا يرى إلا ظله. هو الوهم الذي أسقط الممالك القديمة، ويهدد اليوم مؤسساتٍ وأممًا تبني جدرانها على العظمة الزائفة لا على الإيمان بالإنسان. فحين يختفي التواضع، تبدأ النهاية من الداخل بصمت، كالنار تحت الرماد، تنتظر نسمة غرور لتشتعل من جديد.
الدرس الذي تركه كليب في التاريخ لا يجب أن يُقرأ كقصة عن حرب القبائل، بل كتحذير خالد من أن الطغيان لا يبدأ من سيفٍ مرفوع، بل من كلمةٍ متعجرفة، ومن قائدٍ يرى في نفسه معصومًا.
إن البسوس لم تنتهِ، بل ما زالت بيننا، تتخذ لها وجوهًا جديدة، وأسماء لامعة، وشعارات براقة، لكن جوهرها واحد: غرورٌ يزرع الهلاك، وذكاءٌ يُسخّر في تبرير الخطأ.
ولعل أجمل ما نختم به هو ما لم يقله الزير ولا كليب، بل يقوله التاريخ كل مرة: إن الأمم لا تنهار حين تُهزم، بل حين يغلبها غرور أبنائها.

زر الذهاب إلى الأعلى