
الشرق الأوسط بين ضباب التسويات ومكر الخرائط
بقلم: د. نعيم الملكاوي / كاتب وباحث سياسي
في زمنٍ تخرج فيه المنطقة من لهيب الحرب إلى غبار ما بعدها، يُراد للشرق الأوسط أن يعبر الجسر بين الرماد والضباب، لا على بصيرةٍ من الميدان، بل على خرائط تُرسم في الغياب.
هكذا بدا مؤتمر شرم الشيخ للسلام الذي انعقد بالأمس، بقيادةٍ أمريكيةٍ وبحضورٍ حاشد من زعماء الدول العربية والإسلامية والعالمية، فيما خلت القاعة من وجهي النزاع الحقيقيين: إسرائيل والمقاومة. وكأنّ المشهد اختار أن يتحدث عن النار والرماد ضمناً دون أن يجلس أصحابها حول الطاولة.
كان السلام حاضراً في الخطابات ، غائباً في الجوهر بلا حل الدولتين . كلماتٌ ناعمةٌ تُسكب على جرحٍ مفتوح، ومحاولات لإعادة ترتيب الأوراق قبل أن تجف دماء غزة أو تنطفئ حرائق الجنوب . ومع ذلك، بدا المؤتمر كمن يكتب وصية مرحلةٍ لم تولد بعد، وكأنّ واشنطن تريد أن تُدير زمن ما بعد الحرب على طريقتها: سلامٌ يُدار عن بُعد، وعدالةٌ بلا أطرافها، وتسويةٌ تُرسم على هوامش الخرائط يصوغها بعض الحضور وقلة من خفافيش الظلام .
في القاعة، حضر الاستعراض وتداخلت اللغة الدبلوماسية بالإنشائية، وغاب صوت الحق والميدان الذي كان يكتب بمداد النار وارواح الشهداء . كلّ شيءٍ بدا منضبطاً إلا الحقيقة، غياب إسرائيل والمقاومة لم يكن صدفة بروتوكولية، بل علامة على أن التسوية تُصاغ في مكانٍ آخر، وأن ما يُدار في العلن ليس سوى ظلٍّ لمشهدٍ أكبر خلف الستار.
ما الذي يُراد من هذه التسوية؟
هل هي إعادة إنتاجٍ للواقع ذاته بوجهٍ جديد؟
أم رسمٌ لخريطةٍ جديدة بمدادٍ أمريكي يوزّع الأدوار والأحجام؟
تبدو الولايات المتحدة كمن يسعى إلى تثبيت معادلة “الهدوء مقابل الإعمار”، أي هندسة الصمت على أنه إنجاز، وشراء الزمن بثمنٍ عربيٍ باهظ، تحت عناوين براقة من “السلام” و”الاستقرار”.
أما العالم العربي، فقد حضر بأثقاله لا بأوراقه. بعضه يبحث عن موطئ قدم في ترتيبات الغد، وبعضه يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من توازنٍ إقليميٍّ يتهاوى.
ومع ذلك، ظلّ السؤال معلقاً في فضاء القاعة:
كيف تُبنى تسويةٌ في غياب أصحاب النار؟
وكيف يُكتب سلامٌ بلا اعترافٍ بأثمانه ولا بحقيقة جذوره؟
الشرق الأوسط يقف اليوم على عتبة “مكر الخرائط”؛ خرائط تُرسم لا على الورق فقط، بل على الجغرافيا السياسية والوعي الجمعي للأمة. وما أخطر أن تُرسم الخريطة في لحظة تعب، أو أن يُعقد السلام حين تكون الشعوب مرهقة، تبحث عن أي مخرجٍ من الألم ولو كان وهماً .
قد يُقال إن شرم الشيخ كانت محطة أمل، لكن الحقيقة أنّ السلام لا يولد من رحم الغياب، وأنّ غياب طرفي النار جعل من المؤتمر لوحةً ناقصة الإطار، صدىً بلا صوت، وعنواناً بلا مضمون.
وها هو الشرق اليوم بين ضبابٍ كثيفٍ من التسويات، ومكرٍ يتسلل في صمت الخرائط، فيما الميدان لا يزال مفتوحاً على احتمالاتٍ لا يملكها من حضروا القمة وإن ملكها طرف فهذا يعني ان اسرائيل هي الذراع المتقدم لهذا الطرف !!!
فهل يمكن لسلامٍ يُكتب في الغياب أن يصمد في الحضور؟
وهل تستطيع الخرائط الجديدة أن تُعيد رسم الوعي قبل الأرض؟
أم أننا أمام فصلٍ آخر من فصول إدارة الصراع لا إنهائه، حيث يُعاد توزيع الحكاية ذاتها بأسماءٍ مختلفة وألوانٍ أكثر نعومة؟
ما بعد شرم الشيخ: نحو تسوياتٍ على مقاس “الإبراهيمية”؟
في أروقة المؤتمر، تسرّبت أحاديث جانبية عن إحياء المسار الإبراهيمي بصيغةٍ جديدة، تُعيد تدوير فكرة “السلام الشامل” عبر بوابة التطبيع الاقتصادي والثقافي، لا عبر العدالة السياسية. فبعد كل حربٍ كبرى، يبدو أن واشنطن تُحضّر لمرحلة “إعادة ربط المنطقة” بخيوطٍ ناعمة من التعاون التجاري والطاقة والاتفاقات الأمنية المشتركة، لتُخفي تحتها خطوط السيطرة والضبط.
إن تفعيل المعاهدات الإبراهيمية في هذا التوقيت ليس تفصيلاً عابراً ، بل إشارة إلى أنّ التسوية القادمة قد تكون إقليمية الشكل، أميركية الجوهر، إسرائيلية المصلحة عربية العِرابة وربما تُفتح الأبواب أمام موجة جديدة من “السلام الاقتصادي”، تُحوَّل فيها الجغرافيا إلى مشاريع، والسيادة إلى استثمارات، والذاكرة إلى شعارٍ عن التعايش والتكامل.
بهذا المعنى، قد لا يكون مؤتمر شرم الشيخ نهاية الحرب، بل بداية زمنٍ جديد من هندسة السلام الموجّه، تُعاد فيه كتابة السردية من أعلى، فيما الشعوب لا تزال تبحث عن صوتها في الأسفل.
فهل نحن أمام سلامٍ يُدار بالعقود لا بالضمائر؟
وهل سيُكتب للخرائط الجديدة أن تصمد، أم ستذوب في أول اختبارٍ على الأرض؟
سؤالٌ مؤجلٌ إلى حين انقشاع هذا الضباب الذي يخفي في داخله مكرًا يتقن فنّ الانتظار.