
الفيلم الذي لم يكن خيالاً … غزة على مشارف إسدال الستار
بقلم: د. نعيم الملكاوي / باحث وكاتب سياسي
المشهد الأول: حين هبط الظلام على المسرحفي ليلةٍ ثقيلةٍ من ليالي هذا العصر المرتجف، انطفأت أنوار العالم واشتعلت غزة. لم يكن افتتاح فيلمٍ من نسج الخيال، بل بدء فصلٍ جديد من ملحمةٍ دامية، تُروى على الهواء مباشرة.
خلف الستار، وقف شعبٌ أعزل محاصرٌ بين البحر والنار، بينما جلس العالم على مقاعد المتفرجين، يراقب مأساة القرن من خلف الشاشات، وكأنها مشهدٌ سينمائي يُثير الدهشة لا الفعل.
كانت الطائرات تقصف كأنها تكتب السيناريو بنيرانها، وكان الأطفال تحت الركام يصرخون بلغةٍ لا تحتاج إلى ترجمة. أما السماء، فقد صارت شاشةً واسعةً تُبث عليها كل لحظات الألم الفلسطيني، بتقنية الواقع الحقيقي، لا الافتراضي.
المشهد الثاني: الذروة… حيث لا مكان للمؤثرات ،توالت المشاهد كأنها حلقات من مأساةٍ لا تنتهي. بيوتٌ تُمحى من الخريطة، عائلاتٌ تُباد في لحظة، وشعبٌ يتنفس الموت والدمار والحصار كما يتنفس الهواء.
لم تكن في غزة كاميرات مجهزة على عربات أنيقة ولا ممثلون محترفون؛ كان كل شيء حقيقياً إلى الحد الذي أفقد المشاهدين القدرة على التفريق بين الحلم والكابوس .
المجاعة كانت دوراً مفروضاً على الجميع، والنزوح كان مشهداً جماعياً يتكرر كل يوم في شوارع ضيقة تتسع فقط للوجع. أما الراوي فكان الصمت الدولي، ببرودته وحياده المزعوم، يصف الأحداث كما لو كان يقرأ نشرة جوية لا تهم أحداً.
المشهد الثالث: اقتراب إسدال الستارها هي العناوين العاجلة تومض على الشاشات… «اتفاقٌ وشيكٌ لوقف الحرب على غزة». كأن المخرج يعلن نهاية الفيلم.
فجأة، يعمّ المسرح صمتٌ غريب، وتتساءل العيون المرهقة: أهذا ختامٌ حقيقي؟ هل سيتوقف هدير الطائرات وتُطفأ نيران الحصار؟في قلب الركام، لا أحد يصفق.
الناجون يقفون مذهولين أمام مشهدٍ لا يشبه النهايات، وجوههم تحمل ملامح من عبروا الجحيم وخرجوا منه بأرواحٍ معلّقة على أسلاكٍ صدئة.
غزة، التي لم تنكسر ولم يرتعد شعبها رغم الجراح، تقف اليوم على تخوم فصلٍ جديد… فصلٍ لا يُعرف إن كان سلاماً حقيقيًا أم مجرد هدنةٍ تعيد ترتيب مشاهد الألم قبل إعادة العرض من جديد.
المشهد الرابع: ما بعد النهاية… صدى الأسئلةأيها المشاهدون، لا تنهضوا من مقاعدكم بعد. هذا ليس فيلماً لتغادروا بعده إلى بيوتٍ دافئةٍ وأيامٍ عادية. ما رأيتموه لم يكن خيالاً مصوّراً، بل كان حياةً تُسحق تحت جنازير الحرب، وكرامةً تُنتهك أمام كاميرات العالم، وصموداً يُكتب بالدم لا بالحبر الأسود.
غزة ليست مشهداً عابراً على شاشة العالم؛ إنها مرآة تعكس عجزه، وصمته، واختباراً لأخلاقياته التي صدع روؤسنا بها . واليوم، ونحن نسمع همسات وقف الحرب، تعلو من بين الركام صدى الأسئلة الكبرى يصم الآذان :-
ماذا بعد وقف الحرب؟-
هل ستُفتح أبواب الإعمار بقلوبٍ صادقة، أم بأجنداتٍ سياسيةٍ تُخفي خلفها شروطاً جديدة للحصار؟-
هل ستُعاد غزة إلى الحياة، أم ستبقى جرحاً مفتوحاً في جسد الأمة والإنسانية معاً ؟-
هل سيتغير شيء في الضمير العالمي، أم سيُطوى هذا الفصل كما طُويت مآسٍ لا تُحصى من قبل؟- من سيكتب فصول ما بعد الحرب:
أصحاب الأرض، أم صُنّاع القرار في العواصم البعيدة؟
في الخاتمة: صرخة من على الرُّكح او خشبة العرض … تقول : عندما يُسدل الستار، لا تنطفئ الحقيقة… بل تبدأ مرحلة التأمل العميق.
غزة، التي أرهقتها القذائف لكنها لم تفقد نبضها، تقف اليوم على خشبة التاريخ، تنظر إلى العالم من تحت الركام وتقول:«لسنا مشهداً في فيلمٍ عابر… بل نحن الحكاية ذاتها، أصلها ونهايتها، نحن الصوت الذي لا يُطفأ، والجرح الذي لن يُمحى إلا بالعدل».