
الانتماء الواعي : بين ذاكرة الأرض وصوت النقد
د. نعيم الملكاوي
في زمن تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه الولاءات ويفقد البعض بوصلته ، يصبح الحديث عن الانتماء أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى . ليس الانتماء مجرد شعار يُرفع أو قصيدة تُتلى في محافل الرياء ، بل هو جوهر يتشكل من الذاكرة والهوية ، ويتجدد عبر المسؤولية ، ويتفاعل مع تحديات العولمة و الأخطار .
الوطن ليس حكومة ، ولا مسؤولاً عابراً ، ولا وجهاً بقناع على كرسي متحرك ، الوطن هو الأرض والدم والتاريخ ، هو الذاكرة التي نحملها في صدورنا جيلاً بعد جيل .
الحكومات تأتي وتذهب ، تتبدل وجوهها وسياساتها ، لكن الوطن يبقى ، صامداً لا يتبدل .
الانتماء كهوية ؛
ليس مجرد بطاقة شخصية أو علم نرفعه ، بل هو وعي بالذات الجمعية ، وإدراك أننا جزء من نسيج ممتد عبر التاريخ والتفاف حول قيادة . حين يضعف هذا الوعي ، يتحول الوطن إلى فندق مؤقت ؛ وحين يقوى ، يصبح بيتاً كبيراً منيعاً لا يُغادر ولا يغيب ظلّه .
الانتماء كمسؤولية ؛
الوطن لا يُختزل في شعارات ، أغنيات أو هُتافاً تصدح به الحناجر ، بل يترجم في سلوك يومي يحمي المال العام ، يصون العدالة ، ويواجه الفساد . اما النقد فهو ليس خيانة ولا استدارة خلف الوطن ، بل هو ذروة الانتماء وتاج الولاء ، لأنه محاولة لإنقاذ السفينة لا الهروب منها . أما المصفقون والمهلهلون لكل حركة خطأ كانت ام صواب ، فهم يزينون العيب ، ويغلفون الفشل ، ويتركون الجدار الوطني يتآكل بصمت .
الانتماء كقيمة في زمن العولمة والاختناق ؛
في عالم تتلاعب به العولمة وتغريه الغربة ، يصبح الانتماء امتحاناً عسيراً :
هل نذوب في تيار الاغتراب ، أم نتمسك بجذورنا كذاكرة وهوية ورسالة ؟
هنا يظهر البُعد الرمزي للانتماء : أن نصون الوطن كحقيقة في الصدر ، لا كوظيفة في الجيب .
المصيبة تبدأ حين يظن البعض أن نقد الحكومات إساءة للأردن .
إن النقد الصادق هو قمة الانتماء ، وأرقى أشكال الولاء .
أما التطبيل الأعمى ، فليس إلا ضعفاً وخوفاً وارتباطاً بمصالح آنية .
الناقد الحرّ أشجع وأقرب لوطنه من ألف موالٍ أعمى .
بينما الإعلام الذي يفقد رسالته ويتحوّل إلى بوق مدفوع ، لا يسيء لنفسه فقط ، بل يفسد صورة الوطن ويخلط بين الدفاع عن الأشخاص والدفاع عن الأرض .
وهنا الكارثة : حين يخلط المسؤول بين حماية موقعه وحماية الأردن ، يُجبر المواطن على الخلط ذاته .
وحين يُستخدم خطاب الوطن ستاراً لتغطية الفشل ، يفقد الخطاب الرسمي قوته وقدسيته وبالتالي تتلاشى مصداقيته .
لذلك ، واجبنا اليوم أن نزرع في نفوسنا وأبناءنا وأجيالنا ثقافة الانتماء الواعي :
انتماء يرى الوطن سامياً فوق الأشخاص وفوق الحكومات ، انتماء يقدّس الأرض والهوية ، انتماء لا يخاف من النقد ولا يساوم أمام الفساد ، انتماء يبني وطناً أقوى ، أعدل ، وأبقى .
الأردن لا يهتز من كلمة صادقة ، بل يقوى بها ، ولا يُضعفه النقد ، بل ينهض به .
الأردن يستحق أن نحبه بوعي صادق ونلتف حول قيادته ، لا أن نمدحه بنفاق .