أقلام حرة

بين عبقرية الخطاب وصناعة القرار: من الفكرة إلى الأثر

كتب بشار عبدالمجيد المجالي

في عالم الإدارة والقيادة، ليست المسألة أن تُصدر قرارًا صائبًا فحسب، بل أن تعرف كيف تحوّله من ورقة في يدك إلى نبض في الواقع. فالقرار، مهما كانت وجاهته، يبقى حبيس الأدراج ما لم يُصغ ويُقدَّم ويُبلَّغ بالطريقة التي تمنحه الحياة والقدرة على التأثير. وكثيرون يظنون أن دور القائد ينتهي بمجرد توقيع القرار أو إعلانه، غير أن الحقيقة أن اللحظة الأهم تبدأ بعد ذلك، لحظة إيصال القرار وتحويله إلى فعل، لحظة تمتزج فيها الحنكة بالفهم العميق للناس ولطبيعة المجتمع.

من بين الصفحات المضيئة في تاريخنا، تبرز قصة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا باعتبارها واقعة دينية فحسب، بل درسًا إداريًا بالغ العمق. فعندما قرر عمر أن يدخل في الإسلام، لم يكن الأمر شأنًا شخصيًا عابرًا، بل نقطة انعطاف في مسار الدعوة الإسلامية بأكملها. ومع ذلك، أدرك بعقله الثاقب أن القرار وحده لا يكفي، وأن قيمته الحقيقية لا تتجلى إلا حين يعرف كيف يبلغ الناس، ومتى، وبأي أسلوب.

كان عمر يعلم أن الخبر إذا صدر منه مباشرة فسيُحدث أثرًا، لكن هذا الأثر يمكن أن يتضاعف إذا انتشر بطريقة طبيعية وعفوية في أوساط قريش. ولذا اختار رجلًا من قومه معروفًا بأنه لا يحفظ سرًا ولا يقوى على كتم الكلام. أخبره بإسلامه في صورة سر، وهو يعلم تمامًا أن هذا “السر” لن يلبث أن يصبح حديث الناس. وبالفعل، لم تمر ساعات حتى كانت مكة كلها تضج بخبر إسلام الفاروق. بهذه الخطوة البسيطة والعبقرية في آن، حوّل عمر قراره الشخصي إلى حدث عام، دون أن يعلن عنه بنفسه، ودون أن يدخل في مواجهة مباشرة مع أحد.

ليست هذه القصة سوى درس عميق في فن استخدام الأدوات المناسبة لنشر القرارات وتحقيق أقصى أثر منها. لقد فهم عمر طبيعة البيئة التي يعيش فيها وخصائص المجتمع المكي، وعرف أن الأخبار تنتشر فيه شفهيًا عبر القنوات غير الرسمية. كما درس شخصية من اختاره لنقل الخبر، وأدرك أن ميوله الطبيعية إلى الكلام ستتحول إلى وسيلة لنشر القرار. هذه هي الفكرة نفسها التي يتحدث عنها علم الإدارة الحديث تحت مسمى تحليل أصحاب المصلحة: أي تحديد الأشخاص والجهات التي يمكن أن تؤثر في القرار أو تتأثر به، ثم توظيفهم بما يخدم الهدف.

وفي هذا السياق، يدرك القائد الواعي أن الوسيلة لا تقل أهمية عن القرار نفسه. فالوسائل كثيرة ومتنوعة، من الاجتماعات الرسمية إلى البريد الإلكتروني مرورًا بالقنوات غير المباشرة، لكن الذكاء يكمن في اختيار الوسيلة الأنسب لطبيعة الرسالة والجمهور والوقت. هذا ما فعله عمر ببساطة ودهاء؛ لم يخرج ليعلن إسلامه في الأسواق، بل ترك المجتمع نفسه يتولى نشر الخبر.

ومن أوجه العبقرية في تصرفه أيضًا أنه استخدم ما نعرفه اليوم بـ”المضاعِفين”، أولئك الذين يمتلكون القدرة الطبيعية على نشر الأخبار بسرعة داخل شبكاتهم الاجتماعية. هؤلاء يشبهون ما نطلق عليه اليوم “المؤثرين”، غير أنهم قد لا يكونون أصحاب منصات أو شهرة، بل أشخاص عاديون لهم أثر كبير في محيطهم. لقد استثمر عمر هذه الطبيعة وحوّلها إلى أداة استراتيجية لإيصال قراره إلى أبعد مدى.

ولا يتوقف الدرس عند هذا الحد، بل يمتد إلى مفهوم بالغ الأهمية في عالم الإدارة: القرار في جوهره يجب أن يُبنى على العقل، لا العاطفة، لكن إبلاغه لا بد أن يحمل شيئًا من العاطفة. فالقائد حين يتخذ قرارًا مصيريًا، سواء كان إطلاق مشروع جديد أو إعادة هيكلة أو إنهاء خدمة، عليه أن يستند إلى الأرقام والمعايير الموضوعية، لا إلى مشاعره. أما حين يبلغ القرار، فإن الطريقة التي يصوغه بها ويقدمه بها ينبغي أن تراعي مشاعر من يتأثرون به. خذ مثلًا المدير الذي يضطر إلى إنهاء عقد موظف لأسباب مالية، فإذا أعلن القرار ببرود إداري جاف فقد يخسر احترام من حوله ويُضعف الثقة بالمؤسسة. أما إذا قدّمه بكلمات تقدير لجهود الموظف وتعاطف مع وضعه، بل وربما بدعمه في البحث عن فرصة جديدة، فإنه يكون قد حافظ على إنسانية القرار دون أن يفرط في موضوعيته. تلك هي المعادلة التي تصنع القائد الحقيقي: عقل يحكم القرار، وقلب يرافق طريقة إبلاغه.

من قصة عمر يمكن أن نستخلص أن القرار لا ينتهي عند اتخاذه، بل يبدأ من لحظة نشره. وأن الموارد البسيطة، إن استُخدمت بذكاء، قد تتفوق على الوسائل المعقدة. وأن طريقة إيصال المعلومة قد تكون أهم من المعلومة نفسها. وأن التأثير غير المباشر كثيرًا ما يكون أبلغ أثرًا من الإعلان الصريح. هذه المبادئ نفسها نجدها في الإدارة الحديثة، حين تسرب المؤسسات بعض التفاصيل الإيجابية قبل الإعلان الرسمي لتهيئة المناخ النفسي، أو حين تستخدم القنوات غير الرسمية لتقليل مقاومة التغيير، أو حين تحول الأشخاص ذوي الحضور الاجتماعي إلى أدوات نشر فعالة حتى إن لم يكونوا في مناصب عليا.

ليست قصة إسلام عمر بن الخطاب مجرد صفحة من التاريخ الإسلامي، بل هي نموذج إداري خالد يعلّمنا أن القيادة لا تقف عند حدود اتخاذ القرار، بل تمتد إلى تحويله إلى أثر حي. فالإدارة، في جوهرها، ليست “ماذا نفعل” فقط، بل “كيف نفعل”. وقد جسد عمر هذا المبدأ بأبسط الوسائل وأعظم النتائج، حين جعل من قراره الشخصي حدثًا عامًا غيّر وجه الدعوة الإسلامية. وهكذا يبقى الدرس حاضرًا عبر الزمن: لا تحتقر وسيلة بسيطة إن كانت تحقق أثرًا عظيمًا، فالإدارة الحقيقية ليست مجرد قرارات، بل فن في تحويل هذه القرارات إلى قوة تصنع الفرق.

زر الذهاب إلى الأعلى