
بين ضميرٍ يستيقظ ولعبةٍ جديدة: اعتراف بريطانيا وحلفائها بفلسطين… على أعتاب مؤتمر نيويورك
د. نعيم الملكاوي
في لحظة تُشبه صحوة الضمير المتأخر، أعلنت بريطانيا وكندا وأستراليا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، خطوة أثارت جدلاً واسعاً بين من يراها انتصاراً رمزياً تاريخياً، ومن يقرأها كسياسة باردة تُغطي على خطايا الماضي.لكن ما يجعل اللحظة أكثر أهمية هو أنها تسبق مباشرةً انعقاد مؤتمر نيويورك الأول لحل الدولتين غداً، بمبادرةٍ محورية تقودها المملكة العربية السعودية وفرنسا، حيث يسعى الطرفان لتقديم خارطة طريق دولية تعيد إطلاق المسار السياسي الفلسطيني – الإسرائيلي. هذه المبادرة لم تأتِ من فراغ ؛ فهي تعكس إدراكاً متزايداً بأن الحرب المفتوحة في غزة، واستمرار الانسداد السياسي، يهددان ليس فقط استقرار المنطقة بل توازن العالم بأسره.ضميرٌ يستيقظ… أم كفّارة سياسية ؟حين تعترف بريطانيا – صاحبة وعد بلفور ومهندسة ولادة إسرائيل قبل أكثر من قرن – بفلسطين، فإن للخطوة وقعاً رمزياً لا يمكن تجاهله. كأنها محاولة لتكفير خطيئة تاريخية تجاه الشعب الفلسطيني. لكن السؤال الجوهري يبقى : هل استيقظ الضمير الغربي حقاً بعد مشاهد الدم في غزة ؟أم أن الاعتراف ليس سوى إعادة تدوير لسياسة قديمة بوجه جديد ؟فالاعتراف جاء مشروطاً بوقف إطلاق النار، ووقف الاستيطان، وضبط مسار سياسي “منضبط”. شروطٌ تكشف أن الغرب يمنح الشرعية الفلسطينية بالقطّارة، بينما منح الشرعية لإسرائيل منذ اللحظة الأولى بلا قيد ولا شرط.مؤتمر نيويورك… بين المبادرة والرهانالمؤتمر الذي دعت له الرياض وباريس يحمل في ظاهره محاولة لإعادة الاعتبار لحل الدولتين، وربما لصياغة توافق دولي جديد يضغط على إسرائيل ويفتح الباب لاعترافات أوسع. لكنه أيضاً محفوف بالمخاطر؛ إذ أن بعض الأطراف قد ترى فيه فرصة لإعادة ترويض القضية الفلسطينية وإخراجها من إطار المقاومة الشعبية إلى مربع “الدولة المنضبطة” التي يُراد لها أن تكون كياناً سياسياً ضعيفاً محاصراً بالقيود والشروط المسبقة .اللعبة الجديدة… أم بداية التحرر؟هنا يبرز تساؤل ملحّ:هل الاعتراف بدولة فلسطين هو خطوة حقيقية نحو الحرية ؟أم أنه لعبة جديدة، تسعى من خلالها الدول التي أنشأت إسرائيل أصلاً إلى إعادة صياغة المشهد، بحيث تتحول الدولة الفلسطينية المعترف بها إلى أداةٍ لقمع المقاومة ووانهاء فكرة المطالبة بالحقوق ، وتعمل كذراعٍ أمنية بالنيابة عن الاحتلال لضبط المجتمع الفلسطيني المقاوم ؟إنه تساؤل جوهري يفتح الباب أمام قراءة نقدية لما وراء الاعترافات:
- هل يُراد لفلسطين أن تُعترف فقط بحدودها المرسومة من الخارج ، بينما تُسلب روح المقاومة من شعبها ؟
- هل تتحول شرعية الدولة الجديدة إلى قيد جديد على اعناق الفلسطينيين ، بدل أن تكون سلاحا في معركة الحرية ؟
ما بين الرمزية والواقع
مهما كانت الإجابة، يبقى أن الاعتراف المتزامن مع مؤتمر نيويورك يمثل نقطة انعطاف في المسار التاريخي للقضية الفلسطينية. إنه يضعها في قلب النقاش الدولي من جديد، ويجعلها اختباراً أخلاقياً وسياسياً للعالم : هل هي خطوة في اتجاه عدالةٍ طال انتظارها، أم فصلٌ جديد من لعبة سياسية باردة ، تُدار باسم الضمير بينما تحرس جوهر الاحتلال؟ أم نكون اكثرطمأنينة لوجود السعودية في هذا المسعى ؟
سيناريوهات ما بعد مؤتمر نيويورك
مع انعقاد المؤتمر، تقف القضية الفلسطينية أمام مسارات متعددة قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة :
- توسع دائرة الاعترافات الدولية
نجاح المؤتمر – ولو جزئياً – قد يدفع مزيداً من الدول الأوروبية ، مثل فرنسا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال ، إلى اللحاق بركب الاعتراف بفلسطين. هذا التوسع سيعزز مكانة فلسطين في المنظمات الدولية ويفتح الطريق لعضوية كاملة في الأمم المتحدة. - الموقف الأمريكي… مفتاح المعادلة
رغم اعتراف بعض حلفائها، تبقى واشنطن اللاعب الأهم. فإذا ظل الموقف الأمريكي رافضاً للاعتراف الكامل، فقد تبقى الخطوات الأوروبية مجرد أوراق ضغط رمزية. أما إذا شهدت السياسة الأمريكية تحوّلاً – ولو تدريجياً – فقد يشكّل ذلك نقطة الانطلاق الحقيقية نحو تغيير قواعد اللعبة. - الرهان على السلطة الفلسطينية
الاعتراف الدولي يضع السلطة الفلسطينية أمام امتحان صعب : هل تتحول إلى مشروع دولة ذات مؤسسات حقيقية قادرة على فرض السيادة، أم تبقى في صورة سلطة إدارية محدودة ؟ نجاحها أو فشلها سيحدد مصداقية الاعتراف الدولي على المدى البعيد. - السيناريو الأخطر: الدولة كأداة ضبط
ثمة خشية من أن يتحول الاعتراف إلى وسيلة لإعادة صياغة دور السلطة الفلسطينية ، بحيث تُطلب منها وظيفة أمنية بحتة : قمع المقاومة وضبط المجتمع الفلسطيني بالنيابة عن الاحتلال ، وهو ما يجعل الدولة الوليدة أسيرة منطق السيطرة لا التحرر.
وهكذا، يقف العالم غدًا في نيويورك بين صورتين متناقضتين: صورةٍ لضميرٍ يبدو وكأنه يستيقظ متأخرًا بعد أن تلطّخ بالدماء والخذلان نتيجة الخوف من ململة الشارع الغربي والانقلاب على الديمقراطية المتهمة بأنها مزيفة ، وصورةٍ أخرى لسياسةٍ قد تعيد إنتاج القيد بلون جديد . وبين الصورتين ، يبقى السؤال معلقاً في فضاء التاريخ :
هل يكون الاعتراف بفلسطين بداية ولادة دولةٍ حرّة ، تنبثق من رحم الدم لتكتب فجراً جديداً ؟
أم أنه ليس سوى قيدٍ آخر، تُرسم ملامحه على الطاولة الدولية ليُحكِم حصاراً جديداً على روحٍ عصية على الانكسار؟
ربما يكمن الجواب لا في نيويورك، ولا في بيانات العواصم البعيدة، بل في قلب فلسطين نفسها؛ حيث يصرّ شعبٌ على أن يكون الوجود فعلاً لا يُمحى، وأن تبقى الأرض تروي دائماً بأن الحرية لا تُمنَح… بل تُنتَزع .