
بين حكمة بهلول ومنهجية الإدارة: دروس في القرار والقيادة
بشار عبدالمجيد المجالي
في كتب التراث يُروى أن بهلول وقف أمام الخليفة هارون الرشيد وطلب منه ثلاثة طلبات: أن يطيل عمره، وأن يمنع عنه ملك الموت، وأن يمد في أيامه أكثر. فأجابه الرشيد بعجزه عن ذلك، فابتسم بهلول وقال كلمته الشهيرة: “إذن لِمَ تتكبّر في مُلكٍ ليس لك فيه شيء؟”.
هذه القصة القصيرة لا تحمل فقط طرفة تاريخية، بل تقدم لنا مدخلًا عميقًا للتفكير في مفهوم السلطة والقرار، وهي مفاهيم لا تقتصر على قصور الخلفاء، بل تمتد اليوم إلى قاعات الاجتماعات والمكاتب الإدارية في مؤسساتنا المعاصرة.
عندما نتأمل في معنى السلطة، نجد أنها مرتبطة غالبًا باتخاذ القرار. المدير أو القائد هو الذي يقرر مسار الفريق، يمنح الموافقات، ويضع الاستراتيجيات. لكن، مثلما بيّن بهلول لهارون، هذه السلطة ليست مطلقة. فهناك دائمًا حدود: ظروف خارجية، منافسون في السوق، تغيرات تكنولوجية، أو حتى عوامل اقتصادية واجتماعية لا يديرها الفرد ولا يملك فيها قرار. الإدارة الحديثة تؤكد أن القرار الفعّال لا يقوم فقط على القوة أو الموقع الوظيفي، بل على فهم عميق للبيئة المحيطة، والاستعداد للتعامل مع المتغيرات،فللقرار حدود لا يستطيع أي فرد وإن ملك السلطة التحكم في جميع حدوده وإن كان على الورق قابلا للسيطرة.
ومن أبرز دروس الإدارة أن القرار يفقد قيمته إذا جاء متأخرًا. فكثير من المؤسسات تقع في فخ الانتظار والتردد، فلا تمنح الموظف الفرصة إلا بعد أن يغادر، ولا تعتمد مشروعًا إلا بعد أن يخسر السوق، ولا تعالج الخطأ إلا بعد أن يكبر. يشبه الأمر محاولة إغلاق الباب بعد خروج اللص. هنا يصبح التوقيت هو جوهر القرار. فالقرار المبكر حتى لو لم يكن مثاليًا قد يحافظ على فرصة ذهبية، بينما القرار المتأخر مهما كان حكيمًا فلن يعيد ما فات.
يظهر دور المنهجيات الإدارية الحديثة في فن التحكم بعملية اتخاذ القرار في المؤسسات التي تسعى لتفادي القرارات المتأخرة وتحويل الإدارة من رد فعل إلى فعل استباقي. فإدارة المخاطر مثلًا تدرب القادة على توقع المشكلات قبل وقوعها واتخاذ قرارات مبكرة للحد من أثرها، وإدارة الجودة الشاملة تركز على معالجة الأخطاء في المراحل الأولى من العمل بدل انتظار تراكمها، بينما تدعو القيادة التشاركية المدير إلى إشراك فريقه في التفكير وصناعة القرار بما يعزز سرعة الاستجابة ويثري الحلول. هذه المنهجيات تعلّمنا أن السلطة ليست تحكمًا مطلقًا، بل قدرة على تهيئة بيئة تجعل القرار أسرع وأشمل وأكثر دقة.
القائد الناجح ليس من يتمسك بسلطته وكأنها ضمان أبدي، بل من يدرك حدودها ويتعامل معها بوعي. قصة بهلول تذكّرنا بأن الإنسان مهما بلغ موقعه يظل محدودًا أمام سنن الحياة. هذا الإدراك لا يقلل من قيمة المدير، بل يجعله أكثر حكمة وتواضعًا. فحين يفهم أن سلطته ليست مطلقة، يصبح أكثر ميلًا للتشاور، وأكثر حرصًا على منح فريقه الفرصة، وأكثر إدراكًا لأهمية القرارات المبكرة التي تحمي المؤسسة وتفتح آفاق النجاح.
حين ننقل هذه الحكمة إلى واقع المؤسسات، ندرك أن القرارات ليست مجرد تعليمات تصدر من القمة، بل هي محطات تحدد مصير المؤسسة بأكملها. القائد الحقيقي هو من يستبق قراراته قبل أن يفقدها الزمن قيمتها، ويمنح الفرص في لحظتها، ويشرك فريقه في صناعة المستقبل بدلًا من أن يحتكر القرار وحده.
في عالم الأعمال، الأمثلة كثيرة. شركة نوكيا، التي كانت يومًا رائدة في سوق الهواتف المحمولة، خسرت موقعها لأنها لم تتخذ القرار في الوقت المناسب للانتقال إلى الهواتف الذكية، فسبقها منافسون أسرع حسمًا مثل آبل وسامسونغ. على النقيض، نرى أمازون التي اتخذت مبكرًا قرار الاستثمار في التجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية، فحققت تفوقًا عالميًا لأنها تحركت قبل أن تصبح هذه المجالات تيارًا سائدًا.
ولا يقتصر الدرس على المؤسسات، بل يمتد إلى القادة أنفسهم. نيلسون مانديلا مثلًا يُعتبر نموذجًا عالميًا للقائد الذي اتخذ قراراته في لحظات حاسمة، فاختار المصالحة بدلًا من الانتقام بعد خروجه من السجن، ليقود بلده نحو الاستقرار والديمقراطية. في المقابل، هناك قادة تشبثوا بقرارات خاطئة أو تأخروا في التراجع عنها، فقادوا شعوبهم إلى أزمات طويلة الأمد، وجعلوا بلدانهم تعيش حقبًا أشبه بحقبة ماقبل التاريخ.
إذاً، القرار الناجح ليس مجرد اختيار صائب، بل اختيار صائب في الوقت المناسب. المؤسسات التي تبني ثقافة تشاركية تسمح للأفكار أن تُطرح وتُناقش بسرعة تحقق قدرة أعلى على التكيف والنجاح، بينما المؤسسات التي تؤجل قراراتها أو تحتكرها في يد قلة محدودة تصبح بطيئة، وتتعرض لخطر الانكماش أو الفشل. القادة الذين يدركون أن سلطتهم محدودة بحدود الزمن والظروف، هم الذين يقودون فرقهم إلى النجاح، لأنهم يوازنون بين الحزم والتواضع، بين الحسم والتشاور، وبين الطموح والواقعية.
قصة بهلول مع هارون الرشيد تختصر فلسفة عميقة: لا أحد يملك السلطة المطلقة. الإدارة الحديثة بدورها تعلّمنا أن القرار ليس مجرد توقيع على ورقة أو إعلان عن توجه، بل هو فن التوقيت، وفن المشاركة، وفن الوعي بالحدود. حين يدرك القائد أن القوة الحقيقية ليست في التحكم المطلق، بل في القدرة على اتخاذ القرار في وقته المناسب وبأسلوب يشارك فيه الجميع، تتحول السلطة إلى قيادة، ويتحول العمل الإداري إلى رحلة نجاح متجددة.