واحة الثقافة

من رماد العبث إلى مرايا الواقع “المغنية الصلعاء”

فداء الحمزاوي
تصوير نجلاء الصباح

في ليلة مشبعة بالدخان والظلال، افتتحت الدورة الثالثة والعشرون من مهرجان صيف الزرقاء المسرحي على وقع صرخات الصمت وحرائق الداخل، حين قاد المخرج والممثل كامل الشاويش عرضه “المغنية الصلعاء” النص الأشهر للكاتب الفرنسي الروماني أوجين يونسكو ليعيد تشكيله على الخشبة الأردنية كبيان مسرحي وجودي، بلا حبكة، بلا أبطال، بلا يقين، كما أراده يونسكو تماما، مسرح بلا بداية ولا نهاية، حيث العبث ليس أداة بل هو الحقيقة ذاتها.

تحت قبعة بيضاء مخصصة لرجال الإطفاء، يمشي الشاويش بنفسه في بداية العرض، يحتضن الرمزية كما يحتضن القبعة، يعلن أن النار التهمت الغابات والمقاعد الأخيرة وكل ما يمكن أن يشكل ذاكرة أو أملا، من هنا يبدأ كل شيء بالاحتراق، على الخشبة وفي الداخل الإنسانية، سنابل ضمرة بحركاتها الجسدية وصوتها الأوبرالي المبهم، تقدم شخصية امرأة ليست امرأة بقدر ما هي كينونة تتكلم بلغة لا يفهمها سوى أرستقراطيو اللامعقول، إلى جوارها، يظهر كرم الزواهرة بقبعته الحمراء، نصفه متحكم مستبد، نصفه الآخر متطوع في فرقة إطفاء تحاول إنقاذ ما لا ينقذ.

الصناديق البيضاء التي صممها السينوغرافي المعتمد المناصير لم تكن مجرد ديكور، بل مرايا لداخل الشخصيات، تعكس استعراضات الظلال حين يختفي الجسد ليبقى الأثر، وكأننا أمام مسرح داخل مسرح، واقع يحاكي ذاته في دوائر عبثية متكررة، وحين يقص ذو القبعة الحمراء شعر المرأة وسط صرخاتها، نشهد انكسار الأنوثة والطفولة والبراءة، كأن العرض بأكمله مرثية لبراءة لم تولد أصلا.

الحوارات المتقطعة بين الشخصيات الثلاث نور الطفل الذي يصرخ بكره المدرسة، والأب والأم اللذان يصران على سؤال المغنية الصلعاء التي “ما زالت تصفف شعرها” تكشف قسوة العائلة حين تتحول إلى سلطة، وسلطة الدولة حين تتحول إلى عائلة، دائرة مغلقة من الصمم الوجودي، حيث لا أحد يسمع أحدا، وحيث العبث وحده يتكلم.

في النهاية، حين ينزع الأب والأم أقنعتهما ليعلنا أنهما تقابلا مسبقا، وحين يحاولان إطفاء الحرائق التي التهمت جوف طفلهما، ندرك أن العبث لم يكن في النص وحده، بل في العالم الذي يصر على تجاهل أوجاعه حتى يحترق.

هكذا قدم كامل الشاويش، بمساندة مساعدته منى الرفوع، عرضا يلتقي فيه يونسكو مع الراهن العربي، حيث الحرائق لم تعد مجازا فحسب، بل صارت خبرا يوميا، “المغنية الصلعاء” في افتتاح مهرجان صيف الزرقاء لم تكن مسرحية بقدر ما كانت مرآة، والمرآة لم تعد تعكس الوجوه بل تكشف الفراغ خلفها.

بدا كامل الشاويش موزعا بين أعباء الإخراج وحضوره كممثل على الخشبة، وكأنه يمشي على حافة خطرة، لكنّ بصمته الإبداعية المعتادة ظلت واضحة، ليقود العمل رغم هذا التشتت بثقة وحرفية.

في الجهة الأخرى، خطفت سنابل ضمرة الأضواء بأداء لافت في شخصية العجوز، قبل أن تعود لتكمل بقية المشاهد بجهدٍ بدا أحيانًا خارج إيقاع اللوحة العامة، فيما قدّم كرم الزواهرة أداءً صوتيًا متقنا، تنقل فيه بين طبقاته الصوتية بمهارة، كاشفا عن أصوات متعدّدة سكنت شخصيته وفجّرها جميعًا فوق الخشبة بذكاء.

سينوغرافيا، أبدع المعتمد المناصير في تقديم صورة بصرية ثرية، لكن دخان الطفايات الذي ملأ المكان أزعج بعض الحضور، خصوصا مع وجود أطفال ومصابين بالحساسية، ما دفع للتساؤل حول إمكانية توظيف رموز بصرية بديلة تحافظ على جمال المشهد من دون إيذاء المتفرجين، ومع ذلك، يبقى هذا الدخان جزءا من التكوين الذي أضفى على الخاتمة جمالية مسرحية لا يمكن إنكارها.

زر الذهاب إلى الأعلى