
المائدة تتسع للجميع
بشار المجالي
في إحدى القرى الصغيرة لم تكن المائدة مجرد طعام يُبسط على الأرض، بل كانت حياةً كاملة.
كان أهل البلدة يجتمعون مرة كل أسبوع حول مائدة توكبيرة في ساحة القرية، كل بيت يضع مما عنده: الفلاح يقدّم خبزه الساخن، الراعي يذبح خروفًا، الشيخ يسكب زيت الزيتون من معصرته، والنساء يقدمن ما جادت به أياديهن من حلوى.
لم يكن أحد يسأل: “كم وضعت؟” أو “من الأكثر عطاء؟”، لأن المائدة لم تكن ملكًا لفرد، بل ملكًا للجميع، ورمزًا للشراكة والثقة والتكافل.
لكن في إحدى الأمسيات، انقلب المشهد. دبّ خلاف على قطعة لحم صغيرة، ارتفعت الأصوات، تطايرت الكلمات الجارحة، انقلبت الأطباق، وسالت الأقداح على الأرض. تفرّق الجمع جائعين، رغم وفرة الطعام. لم يكن العجز في الموارد، بل في القدرة على حفظ المائدة من التلوث.اليوم، ونحن نرى تيارات وأفرادًا يتسابقون إلى ما يسمّى بـ “نشر الغسيل” وكشف الأسرار على الشاشات ووسائل التواصل، هم لا يختلفون كثيرًا عن أولئك الذين لوّثوا المائدة.
الأصوات العالية، الشتائم، الفضائح، كلها كالدهن المسكوب على وجه الوطن. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل من الوطنية أن نُظهر للعالم صورة وطننا على هيئة مائدة مقلوبة أو ملوثة؟ وهل حب الوطن يعني الفرح بفضائح مسؤول سابق أو تسجيلات مسرّبة أو استعراض للمواقف؟حب الوطن لا يقاس بقدرتنا على فضح هفواته، بل بمدى استعدادنا لإصلاحها. فالمحب لا يفضح أبناؤه، بل يصحّح لهم بحكمة. فالمحاسبة فعل وطني مشروع، أما التشهير فهو نزوة شخصية تُضعف ثقة الناس بالمؤسسات وتزرع الشك بدل الثقة.لقد ورثنا وطنًا عريقًا بتاريخه ومكانته، لكنه مثقل بالتحديات: بطالة، مديونية، موارد محدودة، وضغوط إقليمية لا تهدأ. ومع ذلك، أثبت الأردن أنه أشبه بقرية صغيرة قادرة على الصمود رغم العواصف.
فحين اجتاح وباء كورونا العالم وأغلقت الحدود، تقاسم الأردنيون الصبر واللقمة والدواء، وأداروا الأزمة بوعي شعبي قبل أن يكون قرارًا رسميًا، فكانت صور الجيش الأبيض وهو يواجه الوباء درسًا في التضحية. وقبل كورونا، كان الأردن قد فتح قلبه وحدوده لإخوانه؛ استقبل موجات اللجوء العراقي في التسعينيات وما بعدها، ثم احتضن ملايين السوريين الهاربين من ويلات الحرب. لم يكن الأمر سهلًا على بلد محدود الموارد، لكنه وسّع مائدته وشارك الخبز والماء مع من لجأ إليه، فأصبح بحق “قرية العرب الصغيرة” التي حملت أوجاع الأمة دون أن تغلق بابها في وجه أحد.المحاسبة شيء، والتشهير شيء آخر. الأولى تبني مؤسسات قوية، والثانية تهدمها. الأولى ترسّخ الثقة بالقانون والقضاء، والثانية تُحوّل الناس إلى متفرجين على مسرح الفضائح.
ومن يريد الإصلاح الحقيقي، فليطالب بقضاء عادل لا يخشى الأقوياء، وبقوانين تطبّق على الجميع، لا باستعراضات تلفزيونية ومكالمات مسرّبة.الوطن، مثل تلك المائدة في القرية الطيبة، لا يملكه فرد. هو ملك للجميع: للفقير قبل الغني، للمزارع قبل التاجر، للشاب قبل الشيخ. والجلوس إلى مائدة الوطن يحتاج أدبًا واحترامًا، لأن بقاءها مشروط بقدرتنا على حمايتها من الصخب والاتهامات.لقد نجح الأردن مرارًا في امتحان الصبر. لكنه اليوم أمام امتحان آخر: امتحان الحفاظ على المائدة من التلوث. فإما أن نحفظها بالألفة والمحبة، وإما أن نضيّعها بالصراخ والأنانية.التاريخ لا يرحم. سيسجل من جلس بأدب على المائدة الوطنية ليأكل ويطعم غيره، وسيسجل من أضاع المائدة بالفضائح والمناكفات.
والخيارات أمامنا واضحة: إما أن نبقى قرية صغيرة متماسكة، أو أن نتحول إلى سوق صاخب يتنازع فيه الجميع على لقمة ضائعة.إن مائدة الوطن كبيرة بما في قلوبنا من عشق له، وتتسع للجميع إذا بقيت نظيفة، عامرة بالحب، محمية من العبث. دعونا نحب وطننا كما نحب أبناءنا: نصحّح لهم دون أن نفضحهم، ونعلّمهم دون أن نهينهم. فما قيمة المائدة إن ضاعت هيبتها؟ وما قيمة الوطن إن صار مادة للشماتة؟فلنحفظ المائدة، فهي ليست مجرد خشب وأطباق، بل وطن كامل، وتاريخ طويل، وأمانة في أعناقنا جميعًا