
إيران والخديعة الكبرى
المحامي طارق ابوالراغب
لم تكن إيران يومًا حليفًا صادقًا للعرب، بل كانت منذ بدايات مشروعها الإقليمي تمارس الخديعة الكبرى، مستخدمة الدم العربي وقودًا لمساوماتها الدولية، ومحوِّلة الجغرافيا العربية إلى مجرد أوراق ضغط على طاولة المفاوضات مع الغرب. فحيثما وقعت الأزمات، ظهرت إيران لاعبًا متخفيًا خلف شعارات المقاومة، بينما جوهر مشروعها لا يتجاوز حدود البراغماتية الباردة.
في اليمن، دفعت إيران بالحوثيين إلى الواجهة ثم تركت الشعب اليمني غارقًا في حرب لا تنتهي، جوعًا ودمارًا وشتاتًا، فقط لتضمن لنفسها موطئ قدم تفاوضي في مواجهة الخليج. وفي لبنان، تحوّل حزب الله من مقاومة وطنية إلى ذراع إيرانية، كبّلت الدولة وأفقدتها سيادتها، وأدخلت بلد الأرز في دوامة أزمات سياسية واقتصادية جعلته رهينة بيد الخارج. أما في سوريا، فرفعت إيران شعار حماية النظام لكنها في الحقيقة ضحّت بالسوريين أنفسهم، وحوّلت أرضهم إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، حتى باتت البلاد خريطة ممزقة بين القوى الكبرى. وفي العراق، وجدت إيران الفرصة لتعيد هندسة النسيج الاجتماعي والسياسي بما يخدم نفوذها، مستغلة هشاشة الداخل لتبقي بغداد رهينة لمعادلاتها مع واشنطن.
غير أن السقوط الأخطر تمثّل في غزة. فقد وجدت حركة حماس في إيران ملاذًا، مع أن خياراتها لم تكن محصورة بها. إلا أنها انزلقت إلى فخ الخديعة الكبرى، لتصبح جزءًا من لعبة إقليمية أكبر من حدود فلسطين. الأحداث التي جرت في السابع من أكتوبر وما تلاها من تقارير تحدثت عن علم إسرائيل المسبق بالهجوم، كشفت أن ما جرى لم يكن سوى مصيدة محكمة. سواء أكان ذلك بسوء نية أو بحسن نية من قيادة حماس، فإن النتيجة الكارثية كانت واحدة: تدمير غزة، قتل أبنائها، وتجويع أهلها. لقد مثّلت حماس آخر معاقل الرفض لمخططات الاحتلال ، لكنها وقعت في براثن نظام الملالي الذي يزعم التدين بينما هو في جوهره مشروع براغماتي يستغل الدين لتثبيت النفوذ. وهنا سقط آخر ستار من ستائر الخديعة الكبرى.
إن ما جرى ويجري في المنطقة يقدم الدليل القاطع: كل ساحة دخلتها إيران انتهت إلى الخراب والانقسام، بينما بقيت طهران تفاوض وتساوم على أنقاض العرب. لا يمن استقر، ولا لبنان تعافى، ولا سوريا استعادت عافيتها، ولا عراق استعاد سيادته، ولا غزة بقيت كما كانت. القاسم المشترك الوحيد هو أن إيران خرجت رابحة من دماء الآخرين، تمارس دور المقاول السياسي الذي يتوشّح بالشعارات ويبيع الوهم باسم المبادئ.
الحقيقة التي لم يعد يمكن إنكارها أن إيران ليست نصيرًا للمقاومة ولا حليفًا للعرب، بل شريك ضمني في بقاء الاحتلال عبر استدامة الفوضى، وإبقاء المنطقة أسيرة الصراعات الطائفية والدموية التي تمنحها موقعًا تفاوضيًا متقدّمًا. إن مشروعها لم يُبنَ على قيم العقيدة كما تدّعي، بل على قواعد المساومة والابتزاز والصفقات.
إن الدرس الأهم من الخديعة الكبرى أن كل قوة أو فصيل يربط مصيره بإيران إنما يوقّع على وثيقة نهايته بيده، عاجلًا أو آجلًا. والمطلوب اليوم ليس مجرد فضح هذه الخديعة، بل صياغة مشروع عربي موحد مستقل،، ويقطع الطريق على كل من يتاجر بالدم العربي تحت عناوين الممانعة المزوّرة. عندها فقط، يمكن للأمة أن تخرج من دوامة الوكالات إلى أفق القرار الحر، وأن تحرر قضاياها من أيدي من جعلوها أوراقًا في صفقات تفاوضية عابرة.