
“براويز” حكايات لنساء سودانيات خلف قضبان العادات
الشاهين الإخباري – المنسق الإعلامي لمهرجان عشيات طقوس فداء الحمزاوي
تصوير علاء القداح
تحت الأضواء الخافتة، وعلى خشبة مسرح مهرجان عشيات طقوس بدورته الثامنة عشر، تتلألئ ثلاث لوحات كأنها براويز لحيوات لم تكتمل، تنبعث روح “براويز”، المسرحية السودانية التي لم تكن مجرد عرض، بل كانت صرخة فنية وفلسفية في وجه جدران التقاليد الصماء .
الرؤية الإخراجية للمبدع محمد نعيم سعد لم تكتف بسرد قصة، بل قدمت لوحات حية من الألم والأمل، مستخدمة الرمزية لتعرية الواقع الاجتماعي، في المشهد الأول، ترقص فتاتان على أنغام كلمات عيسى درويش بصوت شمت محمد نور ورؤى محمد نعيم سعد، وحركاتهما المتنافرة ليست سوى انعكاس لصدام الأجيال وتناقض الأفكار، هذا الرقص ليس استعراضا، بل حوار جسدي عن رفض الانصهار في قالب واحد، عن الاختلاف الذي يمثل هوية كل منهما، ظهور الرجل العابر في هذا المشهد يجسد صورة “الحلم” المنتظر، لكنه حلم زائف، يتحول إلى وهم بمجرد أن يغيب عن الخشبة .
تدخلنا المسرحية إلى عالمها الفلسفي العميق عندما تتجسد الشخصيات الثلاث أمام لوحاتها، كل امرأة هي “بروازها” الخاص الذي حبست فيه، غزوان لبيب في دور الابنة الأولى، ترتدي السواد ليس حزنا على ميت، بل حدادا على روح قتلت بالزواج الإجباري والخيانة انتهت بلقب أرملة، سوادها هو لغة صامتة تروي قصص النساء اللواتي سجن في بيوت الزوجية دون أن يملكن مفتاح الحرية، على النقيض منها، تقف رحاب الكرار في دور الأم، تمثل صوت العادات والتقاليد الذي يرى أن الزواج هو “السترة” الوحيدة، متجاهلة أن هذه السترة قد تكون ستارا يخفي خلفه القهر والظلم .
أما رؤى محمد نعيم سعد، في دور الابنة المتمردة، فهي شرارة التغيير، حوارها الهاتفي مع زميلها ليس مجرد مكالمة، بل هو صراع بين العاطفة الزائفة والوعي، رفضها لكلامه المعسول يعكس رفضها لقوالب المجتمع التي ترى في المرأة مجرد صيد سهل، وعندما تتحدث عن معاناة الفتيات اللواتي يجبرن على الزواج، يتحول المشهد إلى لوحة سريالية، حيث تقوم الممثلات بتمثيل مراسم الزفاف، ليكون الفرح مجرد قناع يغطي وجه الحقيقة القبيح المتمثل في الألم والسجن في قفص كبير .
النص الذي صاغه ببراعة عمر الحاج، يبلغ ذروته في حوار الأم والابنة المتمردة، فبعد أن تلقي الأم عليها درسا في العادات، ترد الابنة، “أنا تعلمت ودرست وروحت مهرجانات ومؤتمرات بالآخر بدك انسجن مع رجل في بيت بسبب مستندات خلته يصير زوجي”، هذا الرد ليس مجرد جملة، بل هو بيان فلسفي يختصر معاناة جيل كامل يرى أن الزواج ليس غاية، بل وسيلة، وأن الإرادة والوعي هما الأثمن من أي وثيقة .
لكن لم تقتصر الحرية على الأخت المتمردة فقط، ففي لحظة مؤثرة، تتخلى الأخت الحزينة عن ثوب السواد الذي لازمها طويلا، وترتدي الأبيض، ليس احتفالا بزواج أختها المتمردة التي تزوجت من زميلها بمحض ارادتها، بل لأنها أيضا وجدت الحب الذي تستحقه، وتزوجت ممن أحبت، ليعكس تحررها من ماضيها المؤلم، ويؤكد أن السعادة ممكنة حتى بعد أعمق الجروح .
بهذه النهاية، يرتفع صوت “براويز” ليعلن أن التمرد على القوالب الاجتماعية لا يعني بالضرورة البقاء وحيدا، بل هو خطوة نحو إيجاد السعادة الحقيقية المبنية على الاختيار والحرية، هو دعوة مفتوحة لكل امرأة لتخلع سواد الماضي وتلتحف بياض الأمل، لتثبت أن الحرية ليست مجرد كلمة، بل هي قرار .
هذا التحول لا يمثل نهاية القصة، بل بداية حلم جديد لجيل يرفض أن يحتجز في “براويز” الآخرين، حلم نفذته بلمسة فنية عميقة أشرقت أحمد بمساعدة محمد الشرقاوي ويوسف الحر، ليصبح “براويز” أكثر من مسرحية، إنه مرآة للواقع ونداء للحرية.





