أقلام حرة

رؤية استراتيجية في توجهات الرئيس شي لتعزيز علاقات الجوار

أ.د. حسن عبدالله الدعجه

في عالم يزداد تشابكًا وتداخلًا بين مستويي الأمن والتنمية، تبرز الصين كقوة عظمى تسير بخطى واثقة نحو بناء منظومة علاقات دولية متزنة ترتكز على الحوار والانفتاح والتنمية المشتركة. وفي هذا السياق، تأتي تصريحات الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال المؤتمر المركزي للعمل مع الدول المجاورة – المنعقد في بكين يومي 8 و9 أبريل 2025 – لتؤكد على رؤية استراتيجية شاملة تنم عن وعي عميق بتحولات المشهدين الإقليمي والدولي.
لقد عبّر الرئيس شي في كلمته قيادتة ورؤية استشرافية تنم عن وعيه بعميق الدور الصين ومسؤوليتها التاريخية تجاه محيطها الجغرافي، مُشدّدًا على أن بناء مجتمع مستقبل مشترك مع الدول المجاورة ليس خيارًا تكتيكيًا، بل هو توجّه استراتيجي دائم ينبع من فهم متجذر للقيم الآسيوية وموقع الصين كمحور استقرار ونمو في المنطقة. إن هذه الدعوة ليست مجرد شعارات دبلوماسية، بل تحمل في جوهرها معاني الشراكة الحقيقية، والثقة المتبادلة، والتنمية المستدامة، وهي توجهات تكتسب أهمية متزايدة في ظل التوترات التي تشهدها مناطق عدة من العالم.
دبلوماسية الجوار مدخل لتحقيق الأمن الجماعي؛ ما يميز هذه التوجهات الصينية أنها تُعيد الاعتبار لمفهوم “دبلوماسية الجوار” كأداة لتحقيق الأمن الجماعي. فبدلاً من اعتماد سياسات الإقصاء أو بناء التحالفات الضيقة، تنتهج بكين سياسة انفتاح قائمة على الحوار والتكامل. وقد أشار المؤتمر بوضوح إلى أن علاقات الصين مع الدول المجاورة اليوم بلغت أفضل مستوياتها منذ العصر الحديث، ما يعكس نجاح هذه المقاربة التي تراهن على توسيع مساحات التعاون وتقليص بؤر التوتر.
كما أن ربط مفهومي التنمية والأمن في خطاب الرئيس شي يُعد مؤشرًا على إدراك القيادة الصينية لحقيقة لا يمكن إغفالها: لا أمن بلا تنمية، ولا تنمية بلا استقرار. ومن هنا، فإن تعزيز التكامل في سلاسل الصناعة والإمداد، ودفع التعاون في مجالات إنفاذ القانون، وتوسيع الشبكات الارتباطية، كلّها تمثل أدوات واقعية لحماية الأمن الإقليمي من جهة، وتعزيز النمو الاقتصادي من جهة أخرى.
الحزام والطريق تعد منصة للتعاون لا الهيمنة في ضوء ما أكده المؤتمر من التزام الصين باستخدام مبادرة “الحزام والطريق” كمنصة رئيسية للتعاون عالي الجودة، يتضح جليًا أن بكين تسعى لترسيخ نموذج جديد للعلاقات الدولية يقوم على المنفعة المتبادلة وليس السيطرة أو التبعية. إن هذا النهج يكسر الصورة النمطية السائدة عن القوى الكبرى، حيث تثبت الصين أنها لا تسعى لفرض نموذجها على الآخرين، بل تدعو إلى تنوع المسارات التنموية ودعم الدول المجاورة في اختيار ما يناسب خصوصياتها الوطنية.
وتجدر الإشادة هنا بتأكيد الرئيس شي على أهمية إدارة الخلافات بشكل مناسب، وهي رسالة تعكس مرونة سياسية نادرة في عالم يميل إلى التصعيد أكثر من التفاهم. فبناء الثقة الاستراتيجية لا يمكن أن يتم دون الاحترام المتبادل والقدرة على احتواء التباينات عبر الحوار وليس الإملاء.
شمولية العمل وتكامل المؤسسات، ومن اللافت أن الاجتماع شهد مشاركة أعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ونائب الرئيس، ما يشير إلى شمولية الرؤية وعمق التنسيق المؤسسي بين أجهزة الحزب والدولة في تنفيذ السياسات الإقليمية. هذه الحوكمة المتكاملة تعطي زخمًا كبيرًا للعمل المتعلق بدول الجوار، وتمنحه أبعادًا تنفيذية تتجاوز الإطار النظري أو البروتوكولي.
نحو بيئة إقليمية مستقرة ومزدهرة في عالم يموج بالأزمات والصراعات، تُعدّ مبادرة الصين لبناء مجتمع مستقبل مشترك مع دول الجوار نموذجًا راقيًا لحسن الجوار القائم على القيم الإنسانية الجامعة كالسلام، والانفتاح، والتسامح. إن إصرار بكين على العمل من أجل بيئة إقليمية آمنة ومستقرة ومزدهرة لا يخدم مصالحها الوطنية فقط، بل يعزز الاستقرار العالمي في وقت تتطلب فيه التحولات الجيوسياسية تعاونًا عابرًا للحدود.
لقد جسّد خطاب الرئيس شي جين بينغ في هذا المؤتمر قمة النضج السياسي والدبلوماسي، حيث قدم تصورًا متوازنًا ومتقدّمًا للعلاقات مع دول الجوار، يقوم على احترام السيادة، وتغليب التنمية، وبناء الثقة، وتحقيق التكامل. وهي مقاربة تمثل بارقة أمل في عالم مضطرب، وتُثبت أن الصين لا تسعى فقط إلى النهوض كقوة اقتصادية، بل تسعى أيضاً إلى قيادة مسار جديد في العلاقات الدولية، يكون أكثر عدالة، وتوازنًا، وإنسانية.

من هنا، فإن الرؤية التي قدمها شي تمثل مصدر إلهام للدول النامية، وفرصة استراتيجية للدول المجاورة لتعزيز شراكاتها مع بكين في إطار يقوم على المساواة والشراكة لا على التبعية أو الصراع

زر الذهاب إلى الأعلى