
المفتي والهلال…
إبراهيم أبو حويله …
مرة أخرى تثبت دائرة الإفتاء الأردنية علو كعبها في تخصصها، وتعلنها صراحة بأنها لا تخضع لشعبويات ولا رغبات ولا توجيهات، وأن دين الأمة هو أمانة وعلم يخضع لمرجعية واضحة ومجلس يحترم الموقف والقرار والأمانة، وأنها تتقبل الإنتقاد والتعليقات والتوجيهات بصدر رحب ورحابة نفس ولكنها لا تغير موقفها.
لا أحب الخوض كثيرا في المسائل الفقهية لطبيعة التخصص وعمق العلم المطلوب للخوض في هذا المجال، وكنت أتمنى كما يتمنى الكثيرون أن تعيد الدائرة النظر في إعتماد العلم الفلكي بإعتباره رؤية علمية، والله إستخدم الشهادة في موطن الإيمان وموطن العلم، وإن لم تتحق الشهادة الحقيقية للحدث المراد الدلالة عليه، وهناك رأي علمي يتبنى ذلك، وهذا يرفع الحرج ويوحد الأمة.
أهل مكة أدرى بشعابها، ونحن في هذا البلد تعرضنا مررا لمواقف إعجاب مفرط ببعض الشخصيات والعلماء من دول مختلفة ليس اخرهم الخميس، ثم إتضح أن موقف هؤلاء لا يتفق مع ما نعتقد أنه الحق والدين ولا مع توجهاتنا ولا رغباتنا، وعلقنا في أخذ ورد ودفاع وهجوم بلا طائل ولا فائدة حقيقية تعود على القضايا التي نؤمن بها، ولا على قضايانا او حياتنا او مجتمعنا بالفائدة.
وعدنا إلى نقطة الصفر معهم، لا بل إلى إحباط وشعور بالغضب واليأس والتطاول على بعضهم، وما قصة فتاوى الجهاد والمقاومة وهم في بروجهم وقصورهم ينظرون عليها، ولا يأخذون برأي الثققات والعلماء من أهل البلاء، وكان لهم مواقف سابقة دفع ثمنها شبابنا في المناطق الملتهبة المختلفة، واتضح بعد زمن أن الكثير من هؤلاء يعملون بتوجيهات وأجندات تستغل العاطفة الدينية، والشعور الديني بضرورة النصرة والوقوف مع المسلمين المظلومين في هذه المناطق، ويوجهون الشباب لإجندات خاصة.
ولا فتاوى الحج والرمي التي عادوا هم وتبنوا ما تبنى علماؤنا، ولا فتاوى صدقة الفطر وغيرها الكثير، نحن لدينا علماء ودائرة إفتاء تعمل بشكل مستقل وفق أسس تم الإطلاع عليها والتوثق منها، وهي متاحة للجميع، يستطيع أي مواطن أن يدخل إلى موقع دائرة الإفتاء الأردنية ويطلع على الفتاوى المقيدة والمسجلة والمتاحة للجميع، وهناك ضبط وألية واضحة جعلت العديد من مسلمي العالم يتوجه لهذه الدائرة ويثق بها ويثق بما يصدر عنها، ويوجه اي سؤال ويتحقق ويشترط لدينه بالحق.
لقد استطاع العلماء الذين أسسوا هذه الدائرة المحافظة على استقلاليتها، وهذا ما أطلعنا عليه ولمسناه في أكثر من زيارة قمنا بها من خلال ملتقى النخبة لهذا الصرح الذي نشهد له بالكثير، من خلال إعداد المفتين وبناء العلم والمعرفة في التخصصات الفقهية المختلفة، بل أن هناك مختصين في كل مجال، وهناك لجان ومجالس فقهية، ولا تصدر الفتوى إلا بعد المرور في هذه المراحل.
وفي أسئلة مباشرة وصريحه من أعضاء الملتقى، بأنه هل تخضع هذه الدائرة لتوجيهات سياسية أو لرغبات من هنا وهناك في امور مثل العيد ورمضان ورؤية الهلال، كان الرد واضحا وحاسما بأن الدائرة لا تخضع إلا لأمر واحد هو صوابية ودقة الفتوى الصادرة عنها، ولذلك ليس غريبا على هذه الدائرة تصلبها في المواقف التي ترى فيها أنها الحق، فعندما ترى أن القيام بالأمر يجانب الصواب ولا يرضي الله ورسوله فهي تعلن ذلك، ولها مواقف عديدة في تحريم وعدم جواز الكثير من الأمور التي تقوم بها الحكومات لأسباب مختلفة، وهذا يضعها في موقف عدم قبول هذه التصرفات، ورغم أنها هيئة مستقلة، فهي كيان موجود في الدولة، ويخضع لها من حيث التنظيم والإدارة، وهذه ليست شهادة مطلقة بكل مواقف هذه الدائرة، ولكن المتابع بإنصاف ويسعى لأن يكون بعيدا عن الشعبويات، ورأي الأكثرية الذي تخطفه العاطفة او الهوى او التجيش، يستطيع أن يرى ذلك بوضوح من خلال المواقف والفتاوى.
يصنع الرأي العام أو التوجه العام تيارا قويا يصعب على العقلاء وغيرهم مواجهته أحيانا، وذلك بسبب مشكلة الثقة أو مشكلة البعض مع بعض دوائر الدولة أو أشخاصها، ولكن هل هذا يعني إن لا نكون منصفين عندما يتطلب الأمر ذلك، وما قصة خطف الفتيات او قصة الإنفلات الأمني او وجود مناطق عصية على الدولة إلا من هذه القصص، التي تلقى رواجا ثم يتضح أنها تلفيق وحرف للحقيقة واخرجها بشكل إعلامي لتناسب تصور ما عند البعض، لغاية في نفسه، أو لعدم وضوح في رؤيته وفهمه، فهو من حيث يدري أو لا يدري يخدم فئة ما وقضية ما ورأي ما.
ولكن هل لو رجع خطوة للخلف ووضع الأمور في ميزان الحق والعدل، هل هذا الموقف يوافق الموازين الحق، ويحقق القسط، ويلبي متطلبات الحساب على الذرة والفكرة والنية، لست مع التخويف او الترهيب، ولست مع أن ننفلت من عقالنا ونهاجم عقلائنا والمخلصين فينا، ومع ضرورة إيجاد الطرق والوسائل لتحديد الفاسد من المصلح، وإلا ضعنا واضعنا من نعول .