أقلام حرة

المواجهة الحتمية …

إبراهيم أبو حويله …

ما يبدأ فكرة ينتهي واقعا.. باعتقادي المواجهة حتمية لأن المصالح تتقاطع وتتعارض، وما تنادي به امريكا في الصين من احترام لحقوق الإنسان وحريته، تغض الطرف عنه في فلسطين والعراق وليبيا وافغانستان وامريكا الجنوبية وحتى في بلادها نفسها، ولذلك هذه الازدواجية تجلب معها مشاكلها، وتخشى السياسة الخارجية الأمريكية من الصين تحديدا ، ولكن الموقف الأخير من الحرب في غزة كشف السياسة الإمريكية على حقيقتها عبر العالم شرقه وغربه، بل أن هناك اصوات تخرج من قلب الولايات المتحدة كنعوم تشاومسكي وهاورد زين وكريس هيدجز وغيرهم الكثيرون، تعارض هذه السياسة القائمة على الظلم والقوة والمصالح، وفرض واقع على العالم تقوده الأحادية الأمريكية.

ما تقوم به السياسة الخارجية في الولايات المتحدة عبر وزارة الخارجية بعدد يصل إلى حوالي سبعين الف موظف، ووزارة الدفاع بعدد يصل إلى ثلاثة ملايين موظف حسب ما جاء في مذكرات هيلاري، هو في الحقيقة السيطرة على العالم، لقد صدق الصحفي الامريكي مايلز كوبلاند عندما قال أن الولايات المتحدة لن يحدث فيها انقلاب لأنه لا يوجد فيها سفارة امريكية، ولك أن تتخيل ان المختصين الدبلوماسيين في وزارة الخارجية يدرسون ويبحثون ويناقشون ويتدخلون ويختصون بسياسة كل بلد في العالم، كما أنه يوجد سبعمائة وخمسين قاعدة للولايات المتحدة خارج امريكا، هذه طبعا تهدف إلى نشر المحبة والسلام في هذا العالم، ومع ذلك هذا النظام العالمي الذي تقوده امريكا استطاع توظيف وصناعة وخلق ولاءات وانتماءات في كل بقعة في هذه الأرض، وهناك معجبين ومؤيدين ومناصرين له ، ويعتمد سياسة العصا والجزرة بشكل واضح وعلني، ولذلك عندما تتعارض مصالح امريكا مع مصالح الدول الأخرى كما حدث في روسيا والصين والعالم العربي والإسلامي ما الذي يحدث .

لكن مهلا هذا لم يكن ليتحقق لولا أن امريكا استطاعت ان تحقق مصالح لهؤلاء، ما الذي دفع مصر الى ان تتخلى عن الاتحاد السوفياتي واللجوء إلى امريكا، ما الذي دفع الملك فيصل على توقيع اتفاقية بيع وشراء النفط بالدولار في فترة تاريخية من تاريخ الأمة، وكانت الأمة على قلب رجل واحد في مناصبة الكيان ومن خلفه العداء، بل إن الملك فيصل نفسه كان له موقف واضح من هذا الكيان، وهذه الإتفاقية تساهم ليومنا هذا في منح الدولار قيمة عالمية في عمليات الشراء والبيع، وما الذي دفع العالم وليس العرب وحدهم إلى الخضوع لهذه الادارة، فما قامت به امريكا مع اوروبا هو ضمان خضوعها بعد الحرب وما زالت خاضعة لهيمنة الولايات المتحدة، اتفق العرب في مرحلة ما على العداء للولايات المتحدة لموقفها من هذا الكيان المارق، ودعمها المطلق له في كل صراعاته، وهذا ما زال واضحا إلى يومنا هذا، بل كان للعرب موقف قوي بقيادة الجزائر والسعودية في خفض انتاج النفط خمسة بالمائة دوريا، وادخال العالم وامريكا في ازمة بسبب المصالح العربية، ولكن نجحت السياسة الأمريكية في تحييد الموقف العربي وتفتيته، بل حتى في تحييد موقف الكثير من الدول مثل اليابان والهند والصين، نعم بقيت بعض الدول صامدة ولكن المواقف تتغير، حتى تركيا التي نعرف لم تستطع الصمود في ظل حكم اردوغان الذي يتصلب بمواقفه مع قضايا الأمة احيانا، ولكن في الحقيقة هذه المواقف لم تستطع الصمود لاحقا، لأن السياسة الأمريكية نجحت في إبقاء الجزرة مغرية لهذه الفئة للتنازل في أحيان كثيرة عن ثوابت تخص الأمة، ولكن لا ننسى بأن العصا أيضا موجودة، وتلسع من يحاول الخروج من تحت هذه العباءة، ولكن ما تقوم به أمريكا اليوم يدفع الكل للتفكير في مستقبل لا تحكم فيه أمريكا، سواء من حيث التعاملات المالية، ومحاولة إيجاد بدائل بدأ بعضها في الظهور، أو من حيث التحالفات القائمة على مصالح الدول.

تقول هيلاري كلنتون في مذكراتها ” إن السياسة الإمريكية الخارجية هي سلك مشدود مرتفع في ساحة دولية صاخبة “، بين السعي لتحقيق الإنسب وبين التغيرات التي تطرأ على الساحة الدولية، بين تلك النقطة التي إستطاعت فيها إدراة ترومان ما بعد الحرب العالمية الثانية خلق عالم جديد وتوزانات جديدة وفرض تحالفات جديدة ، وتغيير إيقاع العالم .

كما يقول مارشال وزير الخارجية ووزير الدفاع في عهد ترومان، وصاحب قانون مارشال الذي سعى لخلق توازن في الضغط على الدول المهزومة مثل ألمانيا، وسعى من خلال هذا القانون لخلق واقع إقتصادي وإجتماعي قادر على الحياة من خلال حزمة من المساعدات والإجراءات القانونية، هل كان يسعى لمصلحة امريكا كما يقولون وليس رحمة بهذه الدول، وذلك لأن قيام هذه الدول ونهضتها يساهم في تعزيز مكانة الولايات المتحدة لاحقا، فإنت تدفع اليوم ولكن تأخذ أضعافا غدا، هذه التحالفات القائمة على تحقيق مصالح امريكا عبر التحالفات والتجارة وشراء المنتجات هو علاقة بفائدة مشتركة للطرفين ، وهذا ما يحقق مصالحها ويجعل امريكا قادرة على قيادة العالم لأنها تراعي مصالح الأخرين ولو بنسب أقل، وما يحدث اليوم هو السعي المطلق لتحقيق مصالح امريكا على حساب الأخرين، فهل سيدفع هذا إلى أنواع جديدة من المواجهة، لا تزال هذه التحالفات هي القوى الأساسية في جعل امريكا قادرة على قيادة العالم، كيف استطاعت السياسة الأمريكية اقناع الصديق والعدو على اللعب وفق نفس القواعد وفي نفس الساحة التي تحقق مصالحها هي اولا، وبتحقيق مصالح ولو نسبي لصالح هذه الدول.

نعم لقد سعى تشرتشل بكل قوته لجر الولايات المتحدة هذا العملاق النائم للحرب العالمية، هل كان يدرك ان اوروبا لن تستطيع الصمود في وجه المانيا بدون امريكا، هل كان يدرك قوة هذا العملاق والذي ستخضع لها بريطانيا بعد ذلك، وان هذا الخضوع لبريطانيا هو افضل الف مرة من الوقوع تحت مخالب هتلر ربما، وكيف لا ووالدته امريكية وقد عاش فترة من حياته هناك، وهو من هو في الدهاء والسياسية ويدرك تماما مصالح بريطانيا ومتى يرفع رأسه ومتى يخفضه، وربما نقف مع هذه وقفة تفصيلية لاحقا، فبقاء الكثير من الدول مرتهن بقدرتها على تقدير قوتها وضعفها ومتى تقدم ومتى تحجم، ما يقوم به الكيان من جرّ الولايات المتحدة للتدخل في المنطقة بهذا الشكل الفج ستكون له تبعات خطيرة على التحالفات ومستقبلها في المنطقة.

الأعراف القانونية والدولية والجنائية المعمول بها عالميا أتضح أنها مصممة للفئة الغربية من العالم ولنوع معين من البشر ذوي البشرة البيضاء، ولكن هنا يتوقف كل شيء منظمات دولية وقانون وحقوق إنسان، الكل يدفع الثمن كما يحدث في الإستعمار الهمجي الغربي، قبل ان يتفقوا على قانون دولي وحقوقي واتفاقية جنيف، التي اتضح ان كل هذا لم يحقق شيئا في جعل السلوك الاستعماري الغربي يقترب من الإنسانية، وما زال القوم على أخلاقهم وهمجيتهم وعنفهم وقسوتهم التي كانوا عليها منذ القرون الوسطى، وما زالت مع ذلك المقاومة مستمرة، وهنا طبعا تسكت الولايات المتحدة راعية النظام العالمي والحقوق الدولية والإنسانية المزعومة عن تجازات الكيان، مع انها لا تسمح لغيره حتى بالتفكير بالإقتراب او المساس بهذه الحقوق حتى لو في النية، كما فعلت في دول وأنظمة عديدة، والواضح هنا ان الولايات المتحدة لا تسعى لحل عادل، ولكنها تسعى لفرض حلول مجزئة منقوصة وفوقية على شعوب المنطقة، وهذا ما يضع حتى تلك الفئة التي تتسم بتقبل ما تطرحه الولايات المتحدة في المنطقة، في خانة حرجة للغاية نتيجة لتصرفات الولايات المتحدة والكيان والداعمين لهم، وتدفعهم للتفكير في حلول أخرى، وتقبل أوضاع وافكار لم تكون مطروحة أصلا، ولم تفلح العصا يوما في جعل الشعوب تستكين للظلم والعبودية وخاصة في الشرق فهل يعي الغرب هذه الحقيقة .

الولايات المتحدة منخرطة تماما فيما يقوم به الكيان وداعمة له، والقول لجون ميرشايمر حيث انها تدرك تماما اي الولايات المتحدة ان الدعم المادي والعسكري واللوجستي يستخدم في هذه الأغراض، ومع ارتفاع الأصوات أحيانا بين الطرفين، فإن الولايات المتحدة ما زالت مستمرة في ارسال شحنات الأسلحة والدعم الذي تقدمه للكيان وهي تدرك تماما فيما يتم إستخدامه. والكيان غير قادر على تحقيق النصر الإستراتيجي الذي يسعى إليه، وغير قادر على إنهاء المعركة بتحقيق نصر ساحق على الطرف الاخر، كما كان يحدث في حروبه السابقة مع بعض الدول العربية متفرقة ومجتمعة، وهو اليوم يواجه معضلة اساسية في إستنزاف موارده المالية والبشرية وقدراته المادية والعسكرية، ولا يظهر ان هناك نهاية في الأفق.

ان هروب الكيان من الحلول السياسية، واعطاء الحقوق الشرعية لمن يقع عليهم احتلاله، وسعيه لفرض ما يريد بالقوة الساحقة والإبادة الجماعية، وتدمير البنية التحتية والتفرقة العنصرية سواء بخلق وعي جمعي بعدم جدوى المقاومة. أو بكيّ الوعي الجمعي كما يقولون، بحيث يصل الوعي الجمعي لشعوب المنطقة الى أن أي تفكير في المقاومة يحدث اثرا مدمرا على الكل، ويدفع ثمنه الجميع حتى تلك الفئات التي لا علاقة لها من قريب او بعيد بالمقاومة، كما نرى اليوم في غزة ولبنان، ومن المرجح ان تتوسع اثار هذه السياسة لتشمل كل المناطق التي يوجد فيها حتى لو اثار قليلة من المقاومة. في ذات السياق يذهب الصراع في شرق المتوسط إلى افاق خطيرة، ومن الممكن أن يتدحرج في أي لحظة إلى أماكن لا يمكن التنبؤ بها، ويتوقع جون أن ما قام به الكيان سيكون له عواقب وخيمة عليه وعلى المنطقة، وهذا ما حذر منه هو والعديد من المفكرين الأخرين، حيث ان العصا الغليظة للنتن ياهو لم تحقق اهدافها الإستراتيجية، وما يحدث في الشرق اليوم هو عكس ما يريده الكيان وحلفاؤه، فما حدث هو حروب إستنزاف صمدت فيها المقاومة ولم تنكسر كما كان متوقع، حتى مع الضربات القاسية التي تعرضت لها المقاومة وبنيتها التحتية والإبادة الجماعية التي تتعرض لها حاضنتها الشعبية.

ويذهب جون إلى ان ما يقوم به الكيان والنتن ياهو تحديدا هو الهروب إلى الأمام، في سبيل تحقيق شيء ما يخرجه من هذا المأزق، ولكن يبدو أن هذه العصا الغليظة التي يملكها غير قادرة على تحقيق هذه النهاية، والسبب برأيه يعود إلى انه لا يواجه جيوش نظامية، وما تملكه المقاومة من صواريخ ومسيرات واسلحة فردية مقاومة للدروع والدبابات، قادرة على تحقيق خسائر مستمرة واستنزاف مستمر، ومن الصعب في ظل الظروف الحالية وضع حل نهائي لهذه المسيرات والصواريخ في ظل الأمكانيات القائمة، وعليه فإن النتائج التي ستحدث هي مزيد من عزلة الكيان وداعميه، وسقوط للسردية التي يتبناها نتيجة هذه القسوة الساحقة والعنف المفرط الذي يقوم به، وظهور تيارات وحركات جديدة في المنطقة وعالميا معارضة له ولسياساته.
هذا بالإضافة إلى ان الامور تتطور بإستمرار، والمقاومة تسعى بكل السبل لتحديث وتطوير اساليبها واسلحتها واستراتجياتها، ما يضع الكيان في تحد مستمر ومتطور، وهو اليوم لم يستطع بكل ما فعل وما يملك من قوة، وبكل ما حصل عليه من اسلحة وذخائر وقذائف ودعم منقطع النظير، في وضع حد لهذه المقاومة والتخلص منها، وعليه ما زال لوضع في المستقبل مجهول وغير متوقع بالنسبة له ، هكذا يبدو مستقبل المنطقة مظلما في الجانب السياسي، وفي صورة التحالفات القائمة التي تسعى لمصلحة الغرب والكيان على حساب دول المنطقة وأمنها واستقرارها، ما يدفع التحالفات في المنطقة إلى مناطق جديدة، تصبح فيه المواجهة ضمن السيناريوهات التي تتبناها هذه الدول، وهذا يخرجها من حالة عدم الإنحياز النظري الذي كانت تختبىء في ظلاله إلى ضرورة الإستعداد للمواجهة.

ونعود هنا إلى خوف بعض السياسين وعدم قدرتهم على القيام بفعل ينهي او يحد من الغطرسة الأمريكية، ما يضع العالم كله في سيناريوهات مواجهة حتمية، أو اتخاذ موقف اكثر حدة في هذا الأمر يمنع حدوث الكارثة، واليوم يدفع الأوكرانيون والأوروبيون الثمن، ومستقبل اوروبا يتعرض لمخاطر جيوسياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة، وتسعى لمكان آمن لها تحت الشمس، تخيل أوروبا تبحث عن مستقبل آمن، فأين نقف نحن العرب، فيما تقف الولايات المتحدة بعيدة عن التأثر المباشر بالأحداث القائمة التي من الممكن أن تتدحرج في أي وقت، وخاصة ان اوكرانيا تسعى لإمتلاك قوة نووية، علما بأنها تنازلت عنها طوعا سابقا وكانت في أراضيها.

وفي النهاية يذهب استاذ العلاقات السياسية وصاحب نظرية الواقعية السياسية الأمريكي جون ميرشايمر “إلى ان ما يحدث اليوم في العالم يستوجب اعادة النظر والتفكير، والخروج بحلول مختلفة للمشاكل التي يعاني منها العالم اليوم. حيث ان ما يحدث في اوكرانيا بتفوق الروس وسيطرتهم على نقاط استراتيجية واماكن حساسة في الأيام الأخيرة، وعدم قدرة اوروبا ومن خلفها الولايات المتحدة على وضع حد للصراع الذي كانت هي السبب فيه، فما قام به جورج بوش ووزيرته كونداليزا رايس من دفع اوكرانيا للإنضمام لحلف الناتو الذي حدث على أيام بايدن، وهو الأمر الذي إستفز بوتين ودفعه للقيام بهذه الحرب”. وما تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة العربية والعالم يضع الجميع أمام تصورات خطيرة يجب الإستعداد لها.

زر الذهاب إلى الأعلى