أقلام حرة

الكلمة …

إبراهيم أبو حويله …

ما أجمل أن نفكر في الكلمة قبل نطقها، وندرك ابعادها وتوظيفها، فكم من كلمة صنعت أمة وبنت حضارة، ونقلت مجتمعا من حالة العبث واللامبالاه إلى حالة البناء والفاعلية، والكتابة مرحلة متقدمة على النطق، فهنا يحدث التحكم الحقيقي لكل كلمة تكتب، وما أجمل أن يكون كلامنا يهدف إلى نبذ الفرقة والخلاف بيننا ويركز على ما ينقلنا خطوات إلى الأمام، ان نرى كيف نعيد لهذه الأمة القها ونهضتها وحضارتها، تلك الحضارة التي جعلت بناء الإنسان الفرد في سلم اولوياتها لأنه ان صلح صلح كل شيء بعد ذلك..لذلك كتبت الكلمة.

معجزة هذه الأمة كلمة وكتاب ، كتاب يحتوي كلاما جعله الله مناسبا لكل جيل من أجيال البشر ، ليحدث إنطلاقته ويحقق حضارته ويحافظ على كيانه المعرفي والثقافي والحضاري ، هذا الكتاب يشكل نقطة إنطلاق لمن يسعى ويحاول جاهدا ان يفهم ، هو يثير تلك الإسئلة ، ويعطي تلك الأجوبة ، ويصنع الفرق ، ذلك الفرق الذي يجعل أي جيل من البشر قادر على الإنطلاق .

الكلمة من وحي الله قرآن ومن الرسول صل الله عليه وسلم حديث ، أول ما خلق الله خلق القلم كما في حديث الأمام أحمد ، “ثم قال له أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة “، القلم مجازا أو حقيقة ، لأن صورة الكتابة تتغير مع تغير البشر فمن تلك اللحظة التي أصبح فيها الإنسان قادر على نقل العلم والخبرة والمعرفة ، خطا خطوات كبيرة إلى الأمام ، فنحن لا نبدأ من تلك اللحظة التي بدأ منها غيرنا ، ولكننا نبدأ من تلك اللحظة التي إنتهى إليها غيرنا .

مخيفة تلك المعرفة التي فقدتها البشرية بسبب عجز الإنسان عن الكتابة أو بسبب ضياع المكتوب أو بسبب اختلاف اللغات والثقافات وضياع التواصل ، فقدنا نحن البشر كما هائلا من المعرفة والخبرة والمعلومات بسبب ضياع التواصل ، وفقدان الحلقات وانقطاع الكتابة بشكل مباشر أو غير مباشر .

نقف اليوم أمام بعض الإنجازات التاريخية بإعجاب كبير ، ونشعر بالعجز عن فهم كيف قاموا بذلك ، ومن أين أتوا بالمعرفة اللازمة لذلك ، حتى أن بعض المهتمين بالتاريخ جنح في محاولة الفهم ، فمن قائل يقول بأن أجناسا أخرى غير بشرية ساهمت في ذلك ، ومن قائل يقول بأن كائنات فضائية ساهمت بذلك ، وحقيقة أشاركهم إعجابهم بما تم إنجازه عبر تاريخ البشر ، ولكني لا إشاركهم إستنتاجهم .

ضاعت المعرفة والعلم والخبرة التي ساهمت في بناء وتشكيل وصناعة تلك الإنجازات بسبب ضياع القلم ربما ، نعم هو ضياع مجازي لعدم وجود آلية لنقل هذا الكم بشكل الصحيح والكامل إلى الإجيال اللاحقة، لا يستوعب الجيل الحالي كل المعلومات من الجيل السابق ، ولا ينقل كل المعلومات التي تم إستيعابها حتما ، ويضيع بين هذا وذاك الكثير .

فمن تلك اللحظة التي تظهر فيها قدرة الأجيال القديمة على صناعة الحياة وعلى تطوير وسائلها ، وعلى البحث الدائب المستمر للوصول إلى كنه المعرفة وإستخدامها وتوظيفها ، ذلك التوظيف الذي صنع هذه العجائب التي نراها بأم أعيننا بإستغراب كبير هو الكلمة المكتوبة .

وهناك بعد أكبر فإن الألسنة يصيبها التبلبل كما جاء الكتب المقدسة ، لعنة بابل أصابت الألسنة فاختلفت وتفرقت وسواء صح هذا الأثر أم لا ، فتاريخيا يحدث هذا، فإن الكلمات تذهب مع قلة الإستخدام وتأتي كلمات جديدة ، و تتغير اللهجات والإستخدامات بتغير الأجيال ، ولذلك إذا حاولت اليوم أن تقرأ ما كتب بالإنجليزية القديمة فستجد لغة مبهمة لا تستطيع فهم الكثير من كلماتها ، وإن كنّا نواجه شيء قريبا من هذا في العربية ، ولكن ليس بنفس الدرجة التي يواجهها أصحاب اللغات الأخرى ، فقد فقدوا التواصل بين القديم والجديد ، فهذا القرآن الذي بين إيدينا حفظ لهذه الأمة ميزة مختلفة ، فهو ثابت لا يتغير ولا تتبدل كلماته وآياته ، ما يجعل كل الذين يقرؤون هذا الكتاب لديهم تلك القاعدة المشتركة من الكلمات التي من الممكن إستخدامها للتواصل بينهم ، حتى لو كان بينهم أجيال ومئات من السنين .

إذا هدف الكلمة هو التواصل ونقل المعرفة والمعلومة والحقيقة، وتراكمية هذه المعرفة للوصول إلى الإستخدام الأمثل لتلك الطاقة المحدودة، من حيث العمر والجهد التي يتمتع بها الإنسان لتحقيق أعظم قدر من الفائدة ، فالمزارع يستغل تلك المعرفة ، والصانع يستغل تلك المعرف ، والسياسي يستغل تلك المعرفة ، والقائد يستغل تلك المعرفة .

وما زالت بعض الكتب تدرس مع أن ألاف السنين مضت عليها وما كتاب تأملاتي لماركوس أوريليوس ولا كتاب فنون الحرب لسون تزو إلا دليل على ذلك، لكن الذي يحدث عندما تغييب الحضارة مؤلم ، فعندها يقل الإهتمام بالعلوم والمعرفة والثقافة والفلسفة ، ونغرق في كثير من التفاهة التي لا تساهم في صناعة إنسان ولا حضارة .

ونخسر تلك الفاعلية التي تساهم في تنميط السلوك وجعله سلوكا إيجابيا، يعود على صاحبه بالفائدة وعلى الأمة بالخير، ونغرق في الفردانية السلبية والكلمة السلبية والفعل السلبي في كل تصرفاتنا ، فلا نصنع فرقا ولا نحدث تغييرا .

هل أدركنا قيمة الكلمة …

زر الذهاب إلى الأعلى