أقلام حرة

أحلام ترامب ووهم الغطرسة الامريكية “مقاربة نفسية وسياسية”

المستشار الاعلامي / جميل سامي القاضي

بداية تُعتبر الغطرسة والعنجهية من السمات البارزة في السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة في عهد الرئيس دونالد ترامب،هذه السمات لم تكن مجرد أسلوب شخصي، بل انعكست في سياسات أمريكا تجاه العالم، مما أثار تساؤلات حول مدى استدامة هذه الهيمنة وما إذا كانت هذه الغطرسة تُعدُّ بداية لانهيار الامبراطورية الأمريكية.
فالرئيس الأمريكي ترامب المثير للجدل، شخصيةً تسيطر على المشهد السياسي العالمي فأحلامه وخطابه الغاضب، وسلوكه الذي يوصف بالغطرسة، جعلته محط اهتمام الباحثين في علم النفس والسياسة على حد سواء وهو لم يخفِ أحلامه التوسعية ، ففي خطاب تنصيبه الثاني،وعد بعصر ذهبي لأمريكا، متحدثاً عن رفع العلم الأمريكي على كوكب المريخ، واستعادة قناة بنما، وحتى ضم جرينلاند وكندا هذه التصريحات، التي قد تبدو خيالية، الا انها تعكس رؤيته لأمريكا كقوة مهيمنة على العالم.
هذه الغطرسة الأمريكية لم تقتصر على السياسة الخارجية ،بل امتدت إلى الاقتصاد فتم فرض عقوبات اقتصادية و تجارية على دول مثل الصين وروسيا، مما سيضر بالاقتصاد العالمي، اضافة الى سياساته العدوانية تجاه حلف الناتو، حيث طالب الدول الأعضاء بزيادة الإنفاق العسكري، مما أثار استياء الحلفاء وزيادة العداء تجاه أمريكا، ليس فقط من الأعداء التقليديين، بل أيضا من الحلفاء ،و بدأت فرنسا وألمانيا تتجه نحو تقليل اعتمادها على أمريكا، مما يعكس تراجع النفوذ الأمريكي عالميا ، كما أن الصين وروسيا استغلتا هذه الفرصة لتعزيز تحالفاتهما الاقتصادية والسياسية، مما يشكل تحديا مباشرا للهيمنة الأمريكية.
ترامب، الذي وصف نفسه بأنه “أفضل رئيس في تاريخ أمريكا”، جسّد الغطرسة في خطاباته وسياساته من محاولة شراء غرينلاند إلى اقتراح ضم كندا كولاية أمريكية،و تصرفاته هذه تعكس نظرة استعلائية تجاه الدول الأخرى، وكأنها مجرد أصول قابلة للشراء أو التبعية مما يعني ظهور نزعة استعمارية حديثة ستؤدي الى استياء عالميا .

وقد تجلّت غطرسة ترامب في منطقة الشرق الاوسط في دعمه غير المحدود لإسرائيل، بما في ذلك الاعتراف بالقدس عاصمة لها وتوسيع المستوطنات، مما أدى إلى توتير العلاقات مع العالم العربي والإسلامي ، والاخطر من ذلك، اقتراحه بتهجير سكان غزة وإعادة توطينهم في دول مجاورة ، رغم الادانة الدولية الواسعة لها حيث اعتُبرت هذه الخطوة غير قانونية وغير اخلاقية ، فاقترح ترامب بتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق”، ما هو الا مشروع يهدف إلى إعادة توطين الفلسطينيين قسراً وتطوير المنطقة لصالح إسرائيل وبذات الوقت فانه بهذا الاقتراح يعكس رؤيته المتغطرسة للصراعات الدولية كفرص لتعزيز النفوذ الأمريكي.

فترامب يُعتبر نموذجاً للغطرسة في السياسة وسلوكه يعكس سمات شخصية متطرفة، تمتاز بالنرجسية العالية وانعدام التعاطف ، هذه السمات جعلته يتبنى أسلوباً قيادياً يعتمد على الترهيب والسيطرة .
ففي كتابه “The Art of the Deal”، وصف نفسه كمفاوض لا يعرف الهزيمة، لكن من ناحية التحليلات النفسية فانها تشير إلى أن غطرسته هذه غالباً ما تخفي شعوراً عميقاً بعدم الأمان ، ومن جانب أخر فان تصريحاته المبالغ فيها، مثل “أنا وحدي أستطيع إصلاح الأمر”، تعكس حاجةً مستمرة لتأكيد ذاته ، واخطر ما في الامر ان ترامب لم يكن مجرد شخصية منعزلة بل نجح في خلق “وهم جماعي” بين أنصاره ، فالعلاقة بين ترامب ومؤيديه يمكن وصفها بـ”الذهان المشترك”، حيث يتبنى المؤيدون معتقداته المتطرفة ويشاركونه في رؤيته للعالم ، هذا الوهم يعزز الشعور بالانتماء لدى المؤيدين، لكنه أيضاً يزيد من انقسام المجتمع الأمريكي ، ففي انتخابات 2024، استغل ترامب مخاوف الناخبين من التضخم والهجرة، وعزز خطابه بوعود استعادة أمريكا لعظمتها ، هذا الخطاب، الذي يعتمد على الغطرسة والوعود الكبيرة، نجح في جذب قطاع كبير من الناخبين، خاصةً في المناطق الريفية والمناطق المهمشة.
ونستطيع القول ان غطرسة ترامب لا تقتصر على الخطاب بل تمتد إلى أفعاله فخلال فترة رئاسته الاولى ، تحدى القوانين والدستور، ورفض نتائج الانتخابات، وحتى حرض على أعمال عنف مثل اقتحام الكابيتول وهذه التصرفات تعكس رؤيته للسلطة كأداة للسيطرة، وليس كمسؤولية تجاه الشعب.
اما في ولايته الحالية،فيبدو أن ترامب سيكون أكثر تحرراً من القيود وذلك مع أغلبية يمينية في المحكمة العليا، مما يسمح له بإمكانية تعليق القضايا الجنائية ضده، وبهذا أصبح قادراً على تنفيذ وعوده الأكثر تطرفاً دون خوف من العواقب .
ان أحلام ترامب التوسعية وغطرسته قد تبدو غير قابلة للتحقيق، لكنها تعكس رؤيةً عميقةً للسلطة والسيطرة في عالم يعاني من عدم الاستقرار، و غطرسته اصبحت تشكل تهديداً للديمقراطية والقيم الإنسانية ، وهذه السياسة تتوافق مع العديد من التحليلات التي ترى بأن هذه الغطرسة الأمريكية قد تكون بداية لانهيار الإمبراطورية الامريكية، فالتقرير الرسمي للجنة تشيلكوت في المملكة المتحدة أشار إلى تراجع الهيمنة الأمريكية، بينما توقع المفكر الفرنسي جاك أتالي أن انهيار أمريكا قد يكون أسرع مما يتصور الكثيرون خصوصا مع التناقضات الداخلية في أمريكا والانقسام السياسي والاجتماعي، والتي تعزز من احتمالية الانهيار.

في النهاية، ترامب ليس مجرد شخصية سياسية بل هو ظاهرة تعكس تحولات عميقة في المجتمع الأمريكي ، فأحلامه ووهم غطرسته قد يتركان أثراً طويل الأمد على السياسة العالمية، مما يتطلب منا فهماً أعمق لدوافعه وتأثيراته ، مع الضرورة بمكان اهمية تشكيل محورا دوليا للوقوف في وجه هذه الغطرسة الأمريكية، التي تجلت في سياسات ترامب، التي لم تكن مجرد أسلوب شخصي، بل كانت انعكاسا لثقافة الهيمنة التي تسيطر على السياسة الخارجية الأمريكية.
ومع تزايد العداء الدولي والتناقضات الداخلية، يبدو أن هذه الغطرسة قد تكون بداية لانهيار الإمبراطورية الأمريكية، مما يفتح الباب لعالم متعدد الأقطاب.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى