أقلام حرة

الخُبّيزة بعد سنّ الحِكمة

كامل النصيرات

كلّما عدتُ للقرية ؛ عدتُ للحقيقة ..لم أكن أظنّ لحظة وأنا طفل و فتى أن ( الخبيزة) التي كنتُ أقيم الدنيا ولا أقعدها لأنهم طبخوها و زهقتها من كثرة ما طبخوها ؛ ستغدو ذات يوم من اشتهاءاتي الدائمة ..! قبل أيّام ..عندما وضعت أمّي أمامي صحن الخبيزة ؛ وضعت معه طفولتي و ذكرياتي ..قدّمت لي الخبيزة ولم تكن تعرف أنها قدّمت معه ( CV ) كاملًا وضعته في رأسي و أعادني للشوارع و الحارات ..للمَزارع و البندورة و الشمام و الخيار و المشي حافيًا بين المزروعات ..للطينة ..للسماء التي بلا حدود ..!
بينما كنتُ أضع الكوابح لكي اتذكر كذا و استحضر كذا ؛ كانت الدنيا تهرب من يديّ و تعود ؛ تلطشني ثم تهرب ثانيةً ..!

يقولون أنه بعد الأربعين والخمسين تدخل في سن الحكمة ..ولا أراني حكيمًا ..بل أراني رجلًا يرقد على جبل من الذكريات ..ذاك البائس ذا الوجه الترابي الذي كان شريكي ذات يوم في أحلام التحرير ؛ وهو اليوم لا يحلم إلا بتحرير لقمة أبنائه ..! وذاك الممسك بعصاه ..كان قبل سنوات يريد أن تأتي كل الأشياء إليه ليستكبر عليها ؛ والآن كل أحلامه أن يذهب للحمّام و يعود دون لهاث..!

القرية تنشّط روحي ..و تستفزني نحو الفقراء ..نحو المتعبين بأحلامهم البسيطة ..و الذين كلّما توفّر معهم قليلًا من الأمل صبّوه على (ستر الدنيا) و (تكملة المشوار دون وجع)..!

كلّنا في هذا العمر نعود للخلف قليلًا و كثيرًا ..كلّنا إمّا تستوقفنا الخبيزة أو فردة حذاء بالية أو بنطلون مرّقع..أو أطفال يلعبون أمام الحوش ..كلّنا نعود ونقارع الندم على كل ما راح..!

الخبيزة مفتاحي ..ومفاتيحكم معكم فليحافظ كلٌّ على مفتاحه ..لأنه ركيزتك عند الاكتئاب و فرجك عند الشدة و الضيق ..!

&&&&

زر الذهاب إلى الأعلى