الصين: بين الابتكار و التقاليد – رحلة علمية ملهمة نحو التقدم الحضاري والاقتصادي
أ.د. حسن عبدالله الدعجه
استاذ زائر بمركز الدراسات للاصلاح والتنمية
بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية
استاذ الدراسات الاستراتيجية بجامعة الحسين بن طلال
خلال زيارتي العلمية إلى الصين، لفت انتباهي حسنالاستقبال وكرم الضيافة اللذان أبداهما المضيفون. كانتالابتسامة والترحيب الحار هما أول ما استقبلني، مماأشعرني بالراحة والانتماء. كما لاحظت تواضعهم ومودتهمفي التعامل، حيث كانوا يستمعون باهتمام ويجيبون علىاستفساراتي بصدر رحب. هذا السلوك يعكس ثقافة صينيةعريقة في التسامح واحترام الآخر، مما ترك في نفسي أثراًإيجابياً عميقاً.
ان زيارتي العلمية إلى الصين، وبالتحديد إلى المركز الصيني العربي للدراسات الإصلاح والتنمية في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية ، وكاستاذ زائر، كانت تجربة ملهمة ومليئة بالاكتشافات. هذا المركز يعد منارة للتبادل العلمي والثقافي بين الدول العربية والصين، حيث يجمع بين الأكاديميين والباحثين من مختلف الدول لدراسة التجارب التنموية والإصلاحات الاقتصادية في الصين والدول العربية، وتبادل الأفكار حول كيفية تطبيقها في البلدان العربية. تركت هذه الزيارة أثرًا عميقًا على فهمي للتقدم الذي حققته الصين على عدة مستويات، سواء كان ذلك في المجال العلمي أو الحضاري أو الصناعي أو الاقتصادي.
التقدم العلمي
من بين ما أثار اهتمامي في هذه الزيارة هو التقدم العلمي الهائل الذي حققته الصين في مجالات متعددة. في جامعات شنغهاي ، رأيت كيف يجري العلماء والباحثون تجارب متقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة المتجددة، والهندسة المدنية. الجامعات والمراكز البحثية في الصين لا تعمل فقط على نقل المعرفة، بل تسعى أيضًا إلى الابتكار والتطوير المستمر.
أحد أهم عوامل نجاح الصين في هذا المجال هو الاستثمار الكبير في البحث والتطوير. الحكومة الصينية تشجع على الابتكار وتدعم المشاريع البحثية الضخمة من خلال تخصيص ميزانيات ضخمة لهذا الغرض. هذا الالتزام بالتعليم والبحث العلمي يظهر في كل جانب من جوانب الحياة العلمية، حيث يساهم بشكل مباشر في تحقيق التنمية المستدامة.
التقدم الحضاري والصناعي
في أثناء تجولي في شنغهاي، لا يمكنني إلا أن ألاحظ التقدم الحضاري الذي يعكس قوة الاقتصاد الصيني. المدينة تمثل مزيجًا رائعًا بين الحداثة والتقاليد. ناطحات السحاب التي تزين الأفق تعد رمزًا للقوة الاقتصادية والتكنولوجية، بينما لا تزال المعالم التاريخية القديمة تحتفظ بجاذبيتها، مما يعكس احترام الصين لتراثها التاريخي.
من الناحية الصناعية، شهدت الصين تحولًا كبيرًا في العقود الأخيرة. تعتبر شنغهاي واحدة من أبرز المدن الصناعية في العالم، وهي مركز رئيسي للتكنولوجيا المتقدمة والتصنيع الذكي. هذا النمو الصناعي لم يكن ممكنًا إلا بفضل سياسات الحكومة الصينية التي تهدف إلى تحديث الصناعات وتحسين الإنتاجية من خلال استخدام التكنولوجيا المتطورة، مثل الروبوتات وإنترنت الأشياء.
شنغهاي ليست فقط مدينة صناعية، بل هي أيضًا مركز اقتصادي عالمي. لديها واحدة من أكبر البورصات في العالم، وتستضيف العديد من الشركات متعددة الجنسيات، مما يجعلها مركزًا رئيسيًا للتجارة العالمية.
مشروع G60
أحد الأمور البارزة التي تم تسليط الضوء عليها خلال زيارتي كان مشروع G60. هذا المشروع الطموح يمثل تحولًا استراتيجيًا يهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين المدن على طول ممر G60، وهو ممر اقتصادي يربط شنغهاي بتسع مدن أخرى في منطقة دلتا نهر اليانغتسي. يسعى المشروع إلى إنشاء شبكة من المدن الصناعية الذكية تعتمد على الابتكار التكنولوجي والتطوير الصناعي المستدام.
يُعد هذا المشروع مثالًا على كيفية تخطيط الصين لتطوير صناعاتها بشكل شامل ومستدام، حيث يتم التركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية مثل تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا البيئية، والذكاء الاصطناعيوتكنلوجيا الفضاء. هذه المدن ليست فقط مراكز صناعية، بل تسعى أيضًا إلى توفير بيئة حضرية متكاملة تعزز من جودة الحياة للسكان من خلال توفير خدمات تعليمية وصحية متقدمة.
التحديث والاقتصاد
الصين، وعلى وجه الخصوص شنغهاي، تُعد رمزًا للتحديث والنهضة الاقتصادية. ما رأيته من تطور في البنية التحتية كان مذهلاً. الطرق السريعة، والجسور، وأنظمة النقل الذكية تعكس مدى التقدم الذي حققته الصين في وقت قصير نسبيًا. بالإضافة إلى ذلك، شهدت شنغهاي تحولات كبيرة في نظامها الاقتصادي. انتقلت المدينة من كونها مركزًا للصناعة التقليدية إلى مركز للتكنولوجيا المالية(FinTech) والابتكار المالي.
في مركز شنغهاي المالي العالمي، وهو أحد أبرز المعالم المالية في المدينة، تم استعراض الدور الحيوي الذي تلعبه شنغهاي كمركز مالي دولي. هذا المركز يجذب الاستثمارات العالمية ويعزز التجارة الدولية، مما يجعله من بين الأهم في العالم. كما أن هناك العديد من المبادرات الحكومية لتعزيز التكنولوجيات المالية وتعزيز الشمول المالي.
المراكز المالية المتقدمة في شنغهاي
شنغهاي تعتبر بالفعل عاصمة مالية عالمية. وهي تمتلك بنية تحتية مالية قوية تتنافس مع مراكز مالية أخرى مثل نيويورك ولندن. من المراكز التي تجذب الانتباه مركز “شنغهاي للأوراق المالية” الذي يُعد أكبر بورصة في الصين، وكذلك “مركز شنغهاي الدولي للطاقة”، الذي يلعب دورًا رئيسيًا في تداول الطاقة.
المراكز المالية في شنغهاي ليست مجرد مبانٍ زجاجية شاهقة، بل هي قلب النبض الاقتصادي للصين. هذه المراكز تجذب الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الكبرى من جميع أنحاء العالم. بفضل السياسات الاقتصادية المرنة والانفتاح على الاستثمار الأجنبي، أصبحت شنغهاي بيئة مثالية للشركات المالية لتوسيع أعمالها والابتكار في المنتجات والخدمات المالية.
الانطباعات العامة
بصفتي زائرًا إلى الصين، شعرت بالإعجاب العميق بما حققته هذه الدولة من تقدم هائل في مختلف المجالات. في المركز الصيني العربي للدراسات الإصلاح والتنمية بجامعة شنغهاي، كانت النقاشات مثمرة حول سبل تعزيز التعاون بين العالم العربي والصين. النموذج الصيني يقدم دروسًا كثيرة للدول النامية، حيث يُظهر كيف يمكن للإرادة السياسية القوية والاستثمار في التعليم والبحث العلمي أن يكونا محركين رئيسيين للتنمية.
التطور الحضاري الذي شهدته في شنغهاي كان واضحًا في كل مكان. من ناطحات السحاب التي تعكس التكنولوجيا الحديثة، إلى الأحياء التقليدية التي تحافظ على الثقافة الصينية القديمة. هذا التوازن بين الحداثة والتراث كان لافتًا للنظر.
على الصعيد الصناعي، يتجلى النجاح الصيني في الدمج بين التكنولوجيا المتقدمة والصناعات التقليدية، مما أسهم في بناء قاعدة صناعية قوية ومنافسة عالميًا. في الوقت نفسه، يتم التركيز بشكل متزايد على الصناعات الصديقة للبيئة والتكنولوجيا الخضراء، مما يعكس التزام الصين بالتنمية المستدامة.
من الناحية الاقتصادية، تتقدم الصين بخطوات سريعة نحو الريادة العالمية. مشروع G60 والمراكز المالية المتقدمة في شنغهاي هما مجرد مثالين على كيفية تخطيط الصين لتطوير اقتصادها ليكون أكثر ابتكارًا واستدامة. شنغهاي أصبحت واحدة من أهم المدن المالية في العالم، حيث تجمع بين القوة الاقتصادية والتطور التكنولوجي، مما يجعلها نموذجًا يُحتذى به.
اخيرا: كانت زيارتي العلمية إلى الصين مليئة بالإلهام والدروس. ما حققته الصين من تطور هو نتيجة للتخطيط الطويل المدى والعمل الجاد، ويعكس رؤية واضحة نحو مستقبل أكثر ازدهارًا وتقدمًا.