أقلام حرة

ذاكرة النجاح.. بين التواضع والنسيان..

محمود الدباس – ابو الليث..

ونحن نعيش زمناً مليئاً بالتغيُرات.. نجد الكثير من الأشخاص الذين ينسون او يتناسون ماضيهم بمجرد أن تتغير أحوالهم.. اكانت للأفضل أم للأسوأ.. هذه الظاهرة ليست غريبة.. لكنها تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة الإنسان.. ومدى قدرته على التذكر والوفاء..

فعندما بدأ أحدهم حياته موظفاً بسيطاً في إحدى المؤسسات.. يتقاضى راتباً يكاد يكفيه لتلبية احتياجاته الأساسية.. كان يَعرف جيداً معاناة الموظفين.. وكم يتطلب منهم الجهد والتعب لتحقيق القليل.. ومع مرور الوقت.. اجتهد حتى نال ترقية تلو الأخرى.. ليصبح في النهاية مديراً ومتنفذاً.. لكن مع هذا التحول الكبير في حياته.. نسي تلك الأيام الصعبة.. وأصبح ينظر إلى الموظفين بعين الاستعلاء.. لم يعد يتفهم مطالبهم.. ولا يدرك معاناتهم.. بل أصبح يتوقع منهم أن يعملوا بلا شكوى.. ناسياً أنه كان يوماً في مكانهم.. ويعاني معاناتهم..

وفي مكان آخر.. عاش شخص طفولته في فقر مدقع.. كان يحلم دائماً باليوم الذي يصبح فيه غنياً.. ليتمكن من مساعدة الفقراء وتخفيف معاناتهم.. وعندما حقق حلمه.. وأصبح من الأثرياء.. تغيرت نظرته للحياة.. نسي كيف كان يشعر بالجوع والبرد.. وأصبح يتجاهل الفقراء الذين كان يوماً واحداً منهم.. لم يعد يقدم لهم يد العون.. بل صار يبرر تقاعسه عن مساعدتهم بأنهم لا يبذلون جهداً كافياً للخروج من فقرهم..

ليس الحديث فقط في مجال العمل والمال.. بل حتى في مجال التعليم.. نجد معلمين كانوا يوماً ما طلاباً يشتكون من أساليب معلميهم الصارمة والخالية من الروح.. وعندما أصبحوا معلمين بدورهم.. نسوا تلك المعاناة.. وبدأوا يمارسون نفس الأساليب التي كانوا يكرهونها وينتقدونها..
تلاميذهم اليوم يعانون من نفس ما عانوه.. دون أن يجدوا في معلميهم هؤلاء تفهماً أو تعاطفاً..

أما عن الأبوة التي ليست ببعيدة عن ذات الواقع.. فهناك قصص لا تنتهي عن آباء كانوا يشتكون من تعامل آبائهم معهم في صغرهم.. من صرامتهم وعدم تفهمهم لرغباتهم وأحلامهم.. وعدم الاستماع لهم.. وعندما أصبحوا آباءً.. نسوا تلك الأيام.. وبدأوا يمارسون نفس الصرامة والاوامر على أبنائهم.. وكأنهم لم يعانوا يوماً من تلك المعاملة..

وعلى النقيض تماما.. هناك من ينتقدون أموراً كانوا هم أنفسهم يفعلونها.. رجل كان يسافر سياحة كل صيف مع عائلته.. وعندما تدهورت حالته المالية.. بدأ ينتقد من يسافرون.. مبرراً ذلك بأن السفر ترف لا ضرورة له..
وآخر كان يأخذ عائلته إلى المطاعم والمقاهي كل أسبوع.. وعندما لم يعد باستطاعته تحمل تلك النفقات.. بدأ ينتقد من يفعلون ذلك.. وكأنهم يرتكبون خطأً جسيماً.. او يفعلون منكرا في وضح النهار..

هذه الحالات تعكس تناقضات الإنسان وتغيراته مع مرور الزمن.. وتحول الظروف.. فمن يصبح مديراً ينسى أنه كان موظفاً.. ومن يصبح غنياً ينسى أنه كان فقيراً.. ومن يصبح معلماً ينسى أنه كان طالباً.. وحتى الأب ينسى كيف كان يتمنى معاملة مختلفة من أبيه..

علينا أن نتذكر دائماً ماضينا وألا ننسى من أين جئنا.. فالتواضع والوفاء للجذور.. هما ما يجعلان الإنسان يحافظ على إنسانيته وقِيَّمِه.. مهما تغيرت أحواله وظروفه.. وعلينا أن نكون عادلين موضوعيين في نقدنا للآخرين.. مدركين أن ما نمر به اليوم.. قد يكون حال الآخرين غداً.. فالحياة دوارة.. وما نقدمه اليوم نحصده في المستقبل..

ولنا في قول “يا راكب.. ما تذكر يوم ما كنت ماشي؟!” عبرة ودرس..

زر الذهاب إلى الأعلى