عجز اليهود عن فهم طبيعة الإنسان الفلسطيني
زياد أبو زياد
بدأ الشهر السادس للحرب على غزة قبل ثلاثة أيام، دون أن يكون هناك في الأفق أي مؤشر على موعد انتهائها. فلا حركة المقاومة تبدي أي تراجع عن عزمها الاستمرار في المعركة ضد العدوان، ولا إسرائيل تبدي أي استعداد لإدراك أن هذه الحرب تحولت الى حرب عبثية تدور في حلقة مفرغة، وأن المشكلة لم تولد في السابع من تشرين أول 2023 وإنما قبل ذلك بعدة عقود.
لا أحد يستطيع أن يجزم ما هو الهدف الذي وضعته كتائب القسام وعناصر المقاومة من الفصائل الأخرى نصب أعينها حين قامت بهجوم 7-10-2023 ، وما اذا كانت قد أرادت عملية موضعية محدودة ولكنها فوجئت بتطور الحرب الى ما تطورت اليه، أم أنها أخذت ذلك مسبقاً في حساباتها بما في ذلك النتائج التي نجمت عنها، وأعدت لذلك عدته.
الشيء الواضح للعيان هو أن قادة إسرائيل الذين كانوا في موقع المسؤولية حين وقع الهجوم ويتحملون مسؤولية الفشل المريع الذي حدث لهم جراءه، يريدون محو عار ذلك الفشل، فوضعوا لأنفسهم هدفاً من غير الممكن الوصول اليه من الناحية العملية، وهو تدمير حماس، وأن الحرب ستستمر في حلقة مفرغة تراوح في مكانها مخلفة وراءها كل يوم العديد من الضحايا، والكثير من الدمار، دون تحقيق نصر حاسم لأي من الطرفين. مع أن البعض يعتقد بأنهم يتمسكون بهدف إطالة أمد الحرب لضمان استمرار بقائهم السياسي، هروبا من المساءلة التي ستقترب وقف القتال.
إسرائيل ومأزق الهدف غير القابل للتحقق
وإسرائيل اليوم في مأزق، لأنها وبعد ان استخدمت أقصى ما لديها من قوة عسكرية تقليدية – لم تستخدم السلاح النووي- لم تستطع حسم المعركة حتى الآن، وقد لا تستطيع حسمها في المستقبل المرئي. فالهدف المعلن لإسرائيل هو القضاء على حماس أو تفكيك نظام حكم حماس أو تدمير القدرة القتالية لحماس (حسب الشخص الذي أعلن عن الهدف ووقت الإعلان)، وتجاهلوا أن حربهم هي ضد الشعب الفلسطيني بأسره، وأن هدف القضاء عليه رغم كل المجازر والمذابح التي ارتكبوها ويرتكبوها كل يوم لن يتحقق.
والآن وبعد خمسة أشهر تجد إسرائيل نفسها أمام سيناريو نظري يتصوره قادتها ويتناولونه بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى، وهو تفريغ رفح من سكانها تماما، ثم خوض معركة شاملة أشبه بلعبة كرة قدم بدون جمهور، ضد المقاومة والقضاء عليها. وهذا السيناريو هو نفسه الذي تكرر في مراحل عدة من الحرب، سواء في محيط مستشفى الشفاء بغزة حين أصروا على أن قادة القسام يختبئون تحت المستشفى، أو في عدة مقاطع أخرى في شمال ووسط القطاع، كان يهيأ للإسرائيليين في كل مرة أنهم أوشكوا على قتل قيادات المقاومة أو اعتقالهم والطواف بهم مكبلين في شوارع تل أبيب، ثم أدركوا أن ذلك بعيد المنال.
والآن تبدو رفح وكأنها الساحة الأخيرة لتحقيق ذلك التصور، رغم أن من المؤكد أن تبدد ذلك الحلم، لن يكون أصعب من تبدد أحلام كل المرات السابقة، التي أعلنوا فيها بشكل دراماتيكي احتفالي أن النصر قريب، وأنهم على وشك اعتقال فلان من رؤوس المقاومة، ثم بلعوا ريقهم ولاذوا بالصمت.
تفريغ رفح أو جنوب القطاع هو الهدف. ليس فقط من أجل خوض معركة شاملة مع المقاومة بقصد تصفيتها كما يقولون، وإنما أيضاً من أجل استغلال الفرصة لإتاحة المجال للتمدد الاستيطاني الإسرائيلي لتصل حدود إسرائيل الى حدود سيناء المصرية، انسجاماً مع السياسة الاستيطانية التوسعية الإسرائيلية التي هي في صلب فلسفة إقامة إسرائيل، والقائمة على المبدأ الذي أعلنته غولدا مئير في السبعينيات، حين قالت ان حدود إسرائيل هي حيث يقف آخر جندي إسرائيلي. ناهيك عن أن الحالة التي أمامنا تحقق لإسرائيل فرصة تحقيق المزيد من الفوائد الاقتصادية، كالاستيلاء على حقول الغاز عند شواطئ غزة، وشق قناة تصل بين البحرين الأحمر والأبيض، لتكون بديلا لقناة السويس وضربة لمصر ضمن ضربات أخرى، يتم الاعداد لها بقصد تركيعها أمام عرش ملوك إسرائيل.
بدء الهجوم على رفح على أرض الواقع
وتفريغ رفح الذي يقف على رأس جدول أعمال هذه الحرب، لم يتغير بل تتغير سيناريوهات تنفيذه من حين لآخر، وآخر هذه السيناريوهات هو الميناء البحري المؤقت، الذي أعلنت أمريكا عن النية لتنفيذه على شواطئ قطاع غزة، والذي من المؤكد أن الادعاء بأن القصد منه هو تقديم “المساعدات الإنسانية” لغزة هو مجرد غطاء لتمرير عملية ترحيل واسعة لسكان القطاع عندما تحين اللحظة المناسبة، وهي لحظة شن الهجوم الإسرائيلي الواسع على رفح، وعندها سيستخدم الميناء لإجلاء المدنيين وترحيلهم الى خارج القطاع، بحجة أن ذلك هو عمل انساني القصد منه هو تجنيبهم المزيد من ويلات الحرب.
لقد قامت إسرائيل خلال الأيام القليلة الماضية بهدم العديد من الأبراج السكنية في رفح كان آخرها برج المصري أمس الأول في جنوب المدينة، وقد بلغ عدد القتلى في هذه العمليات بضع مئات ويزداد في كل لحظة مع تزايد عنف العمليات الإسرائيلية، ولكن إسرائيل وأمريكا ما زالتا تتحدثان عن الهجوم على رفح وكأنه لم يبدأ بعد رغم أنه واقع ومتصاعد على الأرض، والهدف هو تكريس حالة الرعب والذعر بين الناس تمهيداً لخلق حالة الذعر الأكبر حين يتم الإعلان رسميا عن بدء الهجوم الشامل، لخلق حالة هستيريا جماعية تبرر النزوح الجماعي، سواء نحو السفن الراسية في الميناء أو عبر الحدود المصرية الى سيناء، أو الاندفاع مجدداً نحو شمال القطاع الذي تم تفريغه جزئيا في بداية الحرب وعاد اليه بعض من تم ترحيلهم الى الجنوب، بعد أن أدركوا أن لا مكان آمن في القطاع، وأن الموت في بيوتهم المدمرة في الشمال أشرف لهم من ذل اللجوء للجنوب والموت أو النوم في الشوارع.
عجز اليهود عن فهم طبيعة الانسان الفلسطيني
لقد أثبت اليهود أنهم ما زالوا ورغم أكثر من قرن من الصراع بينهم وبين العرب الفلسطينيين، عاجزين عن فهم طبيعة الانسان الفلسطيني وقدرته على استيعاب المعاناة والصمود في أقسى وأعتى الظروف، والنهوض مجدداً في كل مرة من تحت الركام للقتال والدفاع عن حقه في الحياة الحرة الكريمة. فالهدف الذي وضعه قادة إسرائيل نصب أعينهم بالقضاء على روح المقاومة عند الشعب الفلسطيني لن يتحقق، وها هم وبعد أكثر من خمسة أشهر من الحرب المدمرة وقتل أكثر من ثلاثين ألف مواطن، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، ومسح أكثر من 80% من المناطق السكنية في القطاع، وتدمير البنية التحتية للماء والكهرباء والخدمات العامة والجامعات والمزارع والمصانع، ما زالوا رغم كل ذلك يستخدمون صفارات الإنذار للتحذير من الصواريخ القادمة من القطاع، ويعلنون أسماء القتلى وأعداد الجرحى من جنودهم في كل يوم.
الحرب التي تخوضها إسرائيل اليوم ليست حرباً للدفاع عن وجودها، وإنما هي حرب يخوضها قادتها من أجل وجودهم السياسي هم أنفسهم، لأن إقرارهم بأن أمن إسرائيل وبقائها رهن بتحقيق الأمن والسلام للفلسطينيين وأن الطريق الى ذلك هي من خلال وقف العدوان والحرب، والجلوس على الطاولة للتداول حول كيف يمكن أن يتحقق الأمن والسلام للجميع على قدم المساواة، وكيف على إسرائيل أن تكفر عن خطيئاتها في الماضي والحاضر ضد الشعب الفلسطيني وتتحمل مسؤولية ذلك، وعندها سيجد هؤلاء القادة أنفسهم أمام لجان التحقيق.