مواجهات باب العامود ومحاولات طمس هوية المدينة
بقلم: المحامي زياد أبو زياد
شهر رمضان إضافة الى أنه شهر صيام وعبادة إلا أنه بالنسبة للكثيرين ليس في فلسطين وحدها بل في معظم إن لم يكن جميع الدول الإسلامية شهر ينتقل فيه النشاط اليومي من ساعات النهار الى ساعات الليل بعد الإفطار أو حتى بعد أداء صلاة التراويح. وفي الغالب فإن ساعات الليل تتميز بالأنشطة الثقافية والدينية ولا أقصد بالدينية أداء الصلاة بل حلقات الذكر والمسيرات والأجواء الروحانية.
والقدس بطبيعة الحال هي جزء لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي بل إنها تتقدمه لوجود المسجد الأقصى فيها وبسبب الطبيعة المميزة للبلدة القديمة التي تزخر أزقتها وحواريها برائحة التاريخ وقدسية المدينة.
والقدس القديمة داخل الأسوار تعاني من الازدحام بسبب طبيعة الأبنية القديمة داخل البلدة من جهة وبسبب السياسة الإسرائيلية التي اضطرت الكثير من المقدسيين الذين يملكون البيوت والشقق الحديثة في محيط المدينة ولكن خارج حدود بلدية الاحتلال أن يتركوا هذه البيوت والشقق الحديثة ذات المرافق الصحية والتهوية ويعودوا للإقامة داخل بيوت البلدة القديمة التي تعاني من الاكتظاظ والافتقار للمرافق الصحية البيتية الحديثة لكي يحافظوا على هوياتهم المقدسية المهددة بالسحب من قبل سلطات الاحتلال في المدينة.
ويُشاهد الكثيرين من أبناء البلدة القديمة خلال أشهر السنة يخرجون في ساعات النهار إما الى الساحات الخضراء المحيطة بأسوار المدينة وإما الى الحدائق العامة سواء حديقة روكفلر في شرق المدينة أو حديقة الجرس في غربها أو غيرها فالمهم عندهم هو الخروج من البيت ورؤية الشمس والهواء.
أما في رمضان فإن نمط الحياة يتغير بسبب ظروف رمضان واقتصار الأنشطة على ساعات ما بعد الإفطار. ولما كانت ساحة باب العامود هي أشبه بالمدرج الروماني فقد تحولت في ساعات ما بعد الإفطار الى مكان تجمع للأهالي وخاصة الشباب والصبايا يقيمون الاحتفالات والأنشطة الفنية والثقافية ولكن سلطات الاحتلال لم تترك الناس يعيشون الأجواء الاحتفالية الرمضانية براحتهم بل بادرت الى حشد قوات كبيرة من رجال الشرطة في نفس المكان وبدلا من أن تكون ساحة باب العامود متنفس للأهالي وخاصة سكان البلدة القديمة الذين هم بأمس الحاجة للخروج من البيوت المكتظة الى الفناء الرحب تحولت الى ساحة مواجهات ليلية نتيجة الاحتكاك بين رجال الشرطة ومعظمهم من الشبان صغار السن وبين الأهالي الباحثين عن متنفس ومكان يحيون فيه أجواء رمضانية مرحة.
والسؤال هو ما الذي يزعج رجال الشرطة أو المسؤولين الإسرائيليين لو تركوا الناس يعيشون حياتهم وأجوائهم الرمضانية بعيدا ً عن استفزازات الشرطة التي مجرد تواجدها المكثف في المكان يحيله الى ساحة مواجهة تتطور من مناكفات كلامية الى استخدام للحجارة في مواجهة قنابل الغاز والمياه العادمة؟ والجواب لا يحتاج الى كثير من التفكير. فالسياسة الإسرائيلية منذ مطلع القرن الحالي وتحديدا منذ اغلاق بيت الشرق في العاشر من آب عام 2001 الى جانب عدد من المؤسسات الفلسطينية في المدينة من بينها الغرفة التجارية ونادي الأسير والمجلس الأعلى للسياحة وغيرها وإسرائيل تشن حملة مبرمجة لطمس الهوية الفلسطينية في القدس سواء الهوية السياسية أو الثقافية أو الرياضية أو حتى الاجتماعية. وقد بلغت هذه الحملة حد الهوس إذ قامت السلطات الإسرائيلية من خلال وزير الأمن الداخلي وعلى مدى السنوات الماضية ولا تزال بمنع نشاطات ثقافية ومباريات رياضية وعروض مسرحية بل وحتى منع افطارات رمضانية جماعية بحجة أنها ممولة من السلطة الفلسطينية التي التزمت حسب اتفاق أوسلو بعدم ممارسة أنشطة بالقدس خلافا ً لمنظمة التحرير التي، وحسب الاتفاق المذكور، يحق لها فتح مكاتب وممارسة أنشطة بعد الاعتراف المتبادل الذي تم بينها وبين إسرائيل في الرسائل المتبادلة بين الرئيس الراحل عرفات واسحق رابين.
وبالطبع فإن إسرائيل تحترم الاتفاقات الموقعة إذا كان الأمر في مصلحتها وتتنكر لتلك الاتفاقيات وتضرب بها عرض الحائط حين تكون في صالح الجانب الفلسطيني. وعليه فقد منعت بعض المؤسسات بحجة ارتباطها بالسلطة التزاما باتفاقية أوسلو وأغلقت مؤسسات تابعة لمنظمة التحرير مثل بيت الشرق خرقا ً لنفس الاتفاقية.
وفي ضوء هذه السياسة ومحاولات طمس الهوية العربية الفلسطينية لمدينة القدس يمكن فهم التواجد الشرطي المكثف ليليا في ساحة باب العامود بالقدس والتحرش بالمواطنين الذين يفدون الى الساحة للترويح عن أنفسهم وتناول المشروبات الخفيفة والكعك المقدسي الساخن والعتر والفلافل وممارسة الأنشطة الاجتماعية والفنية وهي من صميم حقوقهم الطبيعية في المدينة التي يحاول الاحتلال عبثا أن يغير هويتها. وعلى سلطات الاحتلال أن تفهم بأن من حق المقدسيين أن ينعموا بالهدوء والراحة في مدينتهم وأن عليها أن تسحب قوات الشرطة من ساحة باب العامود ومحيطها إذا كانت فعلا ً لا تسعى لتوتير الأجواء وتصعيد المواجهة مع المواطنين المدنيين الذين لم ولن تنجح سياسات الاحتلال في طمس هويتهم أو منعهم من ممارسة حقوقهم.
ولا بد من الإقرار بأن في القدس اليوم أجيال جديدة شابة كسرت جدار الخوف ولم تعد ترهبها أو تخيفها مظاهر العسكرة سواء في ساحة باب العامود أو في محيط الأقصى أو في الأحياء الأخرى بالمدينة.
فلتنسحب الشرطة من باب العامود وليتركوا الناس يمارسون حياتهم واحتفالاتهم الرمضانية دون ازعاج أو استفزاز أو تدخل لا يؤدي إلا الى عكس ما يدعون أنهم يريدونه. ويقينا ً أن سحب الشرطة من ساحة باب العامود ووقف التحرش بالمواطنين سيحقق الهدوء والاستقرار بالمدينة خلافا لما تتسبب به مظاهر العسكرة.
abuzayyadz@gmail.com