أبناء أخطر من الأعداء
د مهند العزة
نقل المؤرخ وعالم الاجتماع العظيم ابن خلدون ما نصه: “سأل رجل علياً بن أبي طالب رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: لأن ابا بكر وعمر كانا وليين على مثلي.. وأنا، اليوم والٍ على مثلك”. هذه المقولة تلخص العلاقة التشاركية بين أنظمة الحكم والمحكومين وتأثير كل منهم في الآخر.
فالدولة مطالبة حتماً بتحقيق العدل والأمن والاستقرار وسيادة القانون، لكنها ليست قطباً منفرداً ولا متفرداً في ذلك، إذ أن المخاطبين بما تضعه الدولة من أنظمة وقواعد هم شركاء أساسيون في تحديد اتجاه البوصلة من خلال فكرهم وثقافتهم ومسلكهم الجمعي الذي إما أن يعزز من تلك المبادئ والقيم أو ينقلب عليها فتغدو مسخاً أو في أحسن الأحوال حقاً يراد به باطل يتستر خلفه الانتهازيون والباحثون عن مصالح وأمجاد شخصية. تأسست الدولة الأردنية في ظروف إقليمية ودولية عصيبة لم تفتر حدة تداعياتها حتى يومنا هذا، فمع كل حرب تشتعل ونزاع يتفجر في الإقليم، يجد الأردن نفسه في عين العاصفة واقعاً بين مطرقة المحافظة على أمنه وتأمين حدوده من امتداد وتسلل جماعات الظلام والإرهاب، وسندان واجبه الأخلاقي والإنساني والقانوني بفتح أبوابه لكل فارٍّ من آلة القتل وعدّاد الموت.
السؤال الذي يطرحه بعض المراقبين والمتابعين يتمحور حول كلمة السر التي مكنت الأردن بموارده المحدودة وحدوده الملتهبة من الصمود والمحافظة على الاستقرار بل وتحقيق منجزات على صعد مختلفة في هكذا سياق ومعترك محتدم، والجواب ليس إلا تماسك الجبهة الداخلية ووعي المواطنين، والثروة الحقيقية التي يمتلكها الأردن وهي الكفاءة المعرفية والفنية التي جعلت من الأردنيين في مختلف المجالات روّاداً وخبراء يشار إليهم بالبنان في دول المنطقة وعدد من دول العالم.
في الوقت الذي تحتاج إليه الأوطان إلى تعزيز هذا التماسك والتعاضد الداخلي أثناء الأزمات لتتغلب من خلاله على تداعياتها وتخرج منها بأقل الخسائر، أبى البعض عندنا إلا أن يوظف المضاعفات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وجائحة كورونا والحرب على غزة وغيرها من الأزمات العاصفة؛ لتحقيق مآرب شخصية وفئوية ولو على حساب الاستقرار والسلم الداخلي، حيث بدأت إرهاصات هذا الاستثمار المؤلم تتجلى مع ظهور قضية “الفتنة” وما سبقها من دعوات عشوائية للتجمع والتجمهر بتحريض متواصل من فقاعات الصوت التي تنعت نفسها بـ “المعارضة الخارجية” والمعارضة بمعناها السياسي منها براء، وأخيراً بتجييش الشارع وتأجيج النعرات على خلفية قرار تجميد عضوية نائب في البرلمان حدث مع غيره سابقاً وقد يحدث مستقبلا.
ردة فعل النائب العجارمة على قرار تجميد عضويته وامتشاقه الحسام وظهوره بمظهر المجدد والإمام ليس مفاجئاً، إذ عادةً ما يكون هذا مسلك من يجد في الحدث هامشاً لإشباع هوس جامح لإكتساب شهرة واختطاف الأضواء، لكن المفزع بحق كان نجاحه في استقطاب عدداً من المواطنين الذين باتوا من مناصريه من خلال تحويله لقضية برلمانية مؤسسية محضة داخلية تسبب هو في إثارتها بإهانته لزملائه وزميلاته ومخالفته للنظام الداخلي الذي أقسم ضمناً على الامتثال له؛ إلى قضية عشائرية إقليمية، دون أن يتوقف أحدهم للتأمل في الأسئلة الآتية: إذا كان النائب السابق أسامة العجارمة كما قال مستاء من التنظيم الدستوري والقانوني للحياة البرلمانية والحزبية، فلماذا سعى مختاراً غير مكره وأنفق وقته وماله ليظفر بمقعد في مجلس النواب وأقسم بالله العظيم بملء فيه وبلسان عربي مبين؛ على مرأى ممن يهرولون خلفه اليوم بالإخلاص للملك والأمة واحترام الدستور؟ هل النائب العجارمة في المجلس يمثل عشيرته أم الأمة؟ وكيف أصبح قرار تجميد عضويته لمدة سنة قراراً يمس بالعشائر، في حين أن من صوّت مؤيداً لقرار تجميد عضويته جميعهم أبناء عشائر وعائلات؟ أليس في المجلس نائب آخر من عشيرة العجارمة المحترمة ومن سيخلف النائب المفصول أيضاً من العشيرة المحترمة نفسها؟ فمع التسليم جدلاً بما يطرحه النائب السابق ومؤيدوه، أين يكمن المساس بعشيرته أو غيرها من العشائر وتقصّد النيل منها؟ هل بات يكفي أن يصرخ أحدهم باسم فلسطين أو العشائر لتتداعى له الجموع من كل فجٍّ عميق تأييداً ودعماً حتى لو كان على باطل ويوظف الشعارات وإثارة النعرات توظيفاً شخصيا؟ وهل معركة النائب العجارمة حقاً هي معركة حرية رأي وتعبير أم أنه حولها وجيّرها لحساب العشيرة والعشائرية؟ قيام مجموعة من مناصري النائب العجارمة بإشهار السلاح وتوجيهه صوب رجال الأمن الأسبوع الماضي يمثل تحولاً خطيراً ومروّعاً في مسار هذه الأزمة المفتعلة، لكن الأخطر والأكثر ترويعاً هو تداول مقطع فيديو يظهر فيه أسامة العجارمة وهو يروي كيف كان يفكر أن يطلق الرصاص على جلالة الملك تحت قبة البرلمان بسيناريو ملؤه الغدر إذ سرد كيف أنه كان “سيتوجه إليه متظاهراً بأنه يرغب بتحيته وتقبيل جبينه ثم كان سيطلق عليه الرصاص بين عينيه”، هذه المجاهرة والمفاخرة الممتزجة بصيحات الاستحسان والتأييد من مجموعة تقودها العصبية البغيضة بانتواء القتل والتحريض عليه، تعد سابقةً خطيرةً ينبغي التوقف عندها ملياً ودراسة مسبباتها وغاياتها، وإذا كان النائب السابق سوف يحاجج بأنه لم يسمِ الملك في تهديده ووعيده، فإن هذا لا يغير من الأمر والتوصيف شيء، فالمجني عليه في جرائم القتل أو الشروع فيه أو التحريض عليه لا يؤثر مطلقاً في تكييف الفعل وتجريمه ووجوب العقاب عليه، لذلك فلا بد من إحالة أسامة العجارمة ومن يثبت اشتراكه معه في أعمال الشغب المسلح والتحريض على القتل فوراً لمحاكمة عادلة وله حينها إبداء ما يشاء من الدفوع.
الدولة أمام اختبار حقيقي لهيبتها وإعلاء سيادة القانون بالقانون، أما إذا انتهت القضية بتطييب الخواطر و”بوس اللحى” فسوف نكون على موعد جديد مع تمرد مسلح آخر في بقعة أخرى من هذا الوطن الذي بات بعض أبنائه أخطر عليه من أعدائه.