أقلام حرة

الجد الثالث


مهند العزة

يقول الكاتب الكبير جورج أورويل صاحب الرائعة الأدبية السياسية “مزرعة الحيوان” “إذا كانت الحرية تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني أن تقول للناس ما لا يرغبون في سماعه”
“If liberty means anything at all, it means the right to tell people what they do not want to hear”
قد تكون مثل هذه العبارات والمفاهيم عصية الاستيعاب على من يرون في الحريات وحقوق الإنسان رفاهيةً وثقافة تستهدف المجتمعات المتدينة والمحافظة في دول أبت حكوماتها ومحكوميها إلا أن يظلوا رهائن لتقاليد قال ابن خلدون عنها: “أن اتباعها لا يعني أن الأموات أحياء بل أن الأحياء الذين يتشبثون بها أموات”، لكن ما لا يمكن فهمه أن لا تكون التجربة العملية والبرهان معطيات غير مقنعة بأن حظر تناول وتداول الآراء والأفكار والانطباعات والمواقف في قضايا تهم الرأي العام؛ هو أسوأ ما يمكن اللجوء إليه لما يفرزه من بيئة خصبة لمعلومات غير دقيقة أو مضللة واستخلاص النتائج وربما اتخاذ خطوات وردات فعل بناءً عليها.
توضيح النائب العام بأن قرار حظر النشر في ما بات يعرف بـ “قضية الأمير حمزة” بأنه لا يشمل التعبير عن الآراء التي ينبغي أن تراعي خصوصية التحقيقات وعدم انطوائها على إساءة لأي شخص؛ خطوة جيدة تنسجم مع واقع فرض نفسه منذ سنوات غدى فيه المنع والحظر ممارسات خارج السياق.
حالة الاستقطاب غير المسبوقة التي شهدها وما يزال الأردن بسبب هذه القضية تتطلب الذهاب إلى آخر مدى في الشفافية وبيان المعلومات حتى لا يترك الناس نهباً لفوضى الإعلام وضبابية المعلومات وقوداً لنيران التجاذب المستعرة بين متوجسين وخائفين على استقرار أمنهم وبلدهم وآخرون وجدوا في هذه الأزمة متنفساً يعبرون فيه عن سخطهم على الأوضاع المعيشية والسياسية، وفئة ثالثة من راكبي الأمواج تصب زيتها على النار في كلا الفريقين.
في الديموقراطيات الحقة يتم بث المحاكمات الكبرى التي تهم الرأي العام أياً كانت طبيعتها، وما زال العالم يذكر محاكمة كلينتون أمام مجلس الشيوخ في منتصف عقد تسعينيات القرن الماضي، وأول محاكمة للرئيس الراحل حسني مبارك عقب ثورة 25 ياناير التي فرضت أجواءً من الحرية التي استحال معها إخفاء أي شيء عن الرأي العام، إلى أن بدأت جذوة هذه الثورة تخبو شيءً فشيء لتبدأ عملية المسائلة والمحاسبة لشخوص النظام السابق تتحول إلى محاكمات صورية انتهت بتبرئة الرئيس وقيادات الحزب الوطني من كبريات التهم التي أسندت إليهم.
ثمة أسئلة ينتظر الأردنيون إجابات عنها وأهمها من وجهة نظري ليس تفاصيل ما حدث، وإنما ما سيحدث وما هي استراتيجية الخروج منه، فإذا كان قد تم احتواء الأزمة عائلياً مع الأمير حمزة، أي أنه لن يتم اللجوء إلى القضاء بخصوصه وهو ما أشار إليه وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي حينما وجه أحد الصحفيين هذا السؤال إليه بشكل مباشر وما أكدته الرسالة الملكية إلى المواطنين يوم الأربعاء الماضي، فإن السؤال الأبرز والحالة هذه يتعلق بمصير من تم اعتقالهم على خلفية هذه القضية، إذ لا يعقل أن تتم تسوية القضية “وديّا” مع الشخصية المحورية وفقاً لما جاء في تصريحات وزير الخارجية لصحيفة وول ستريت جورنال وما يمكن استخلاصه أيضاً من ثنايا الرسالة الملكية؛ في حين تتم محاكمة وإدانة من قيل بأنهم كانوا مجرد منفذين لمهام رسمت وأوكلت إليهم.
التسويات السياسية قد تكون ممارسة مقبولة في بعض القضايا لدرء أخطار محدقة قد تنجم عن المسارات القانونية والقضائية، مع ذلك، فإن عدم إخراج هذه التسويات بشكل مقنع ومبرر سوف ينال من مصداقية الدولة وربما يثير الشكوك حول روايتها للأحداث جملةً وتفصيلا. الملك في موقف لا يحسد عليه، فهو من جهة مطالب بمواجهة التشكيك في الرواية الرسمية لما حدث لقطع الطريق على أي تأويلات مغلوطة أو أي استثمار غير بريء لحالة الاستقطاب والاحتقان التي أفرزتها هذه الأزمة، ومن جهة أخرى قد يكون في التصريح وكشف ما خفي ما يمس بالتماسك العائلي وربما الإضرار بمصالح الأردن الاقتصادية والسياسية مع دول بعينها، لذلك فإن الموازنة بين القانوني والسياسي ومصالح الدولة العليا والتماهي مع مطالب الرأي العام لحماية مصداقية الدولة أمام مواطنيها، من أصعب المواقف التي يمر بها حاكم على وجه الأرض في دولة يطالب شعبها بالإصلاح الشامل لكن على طريقته الخاصة.
إن كان من درس مستفاد من هذه الأزمة، فهو تأكيد المؤكد والتسليم بالمسلّم به، وهو أن النهج الديمقراطي بسياقاته التي تكفل حرية الرأي والتعبير والمساءلة والشفافية وفصل السلطات بما يضمن تعزيز رقابة البرلمان واستعادة الحكومة لولايتها واستقلال القضاء ومنع الأجهزة الأمنية من التدخل في الحياة السياسية وتمكين منظمات المجتمع المدني من لعب دورها بحرية واستقلال؛ هو قارب النجاة وضمانة الاستقرار وأداة تحقيق الأمن والأمان، ليبقى السؤال، هل الأردن بتركيبته الديمغرافية وثقافته الجهوية وانتماءاته العائلية والعشائرية يمكنه قبول نتائج عملية إصلاح سياسي وإداري حقيقية تفرز قانون انتخابات غير قائم على المحاصصة وحكومة برلمانية غير هوياتية قوامها إرادة الناخبين وخياراتهم، بحيث تتقبل أي فئة احتمال عدم فوزها بمقعد في مجلس النواب وربما عدم تعويضها عنه بمقعد في مجلس الأعيان، ومن ثم قبول عدم حصولها على حقيبة في الحكومة المنتخبة.
لم يتمكن الرسل والأنبياء من إقناع جميع أقوامهم برسالتهم بالرغم مما جاءوا به من “معجزات” لأن التشبث بما أُلفيَ عليه الآباء والأجداد كان أشد من أن يقاوَم، فهل يمكن أن يتحقق الإصلاح في سياق يصر فيه جانب كبير من أهل الحل والعقد على وضع القوانين لتتماهى مع الواقع وليس لتغييره؟
طريق الإصلاح يبدأ من المناهج الدراسية التي يجب أن تكرس ثقافة وطنية عمادها التنوع وقبول الآخر والاعتداد بالنفس وليس بالانتماء الجهوي أو العشائري؛ حتى يصبح المقطع الرابع من أسمائنا في هوية الأحوال المدنية هو اسم الجد الثالث.

زر الذهاب إلى الأعلى