أقلام حرة

قراءات في المسؤولية الدولية

( هل يمكن مساءلة دولة الصين عن الاضرار التي لحقت بالدول من جراء انتشار فيروس كورونا؟ )

سلمان الحنيفات

بداية لا بد من معرفة سبب انتشار الفيروس وهل هو ناتج عن نشاطات بيولوجية, او اي نشاطات تصنيعية سواء كانت صناعات مشروعة , او غير مشروعة, ام كان انتشار المرض لاي اسباب أخرى.

القانون الدولي أقر بمسؤولية الدولة عن النشاطات المباحة, ولم يعد بامكان دولة ان تقول بانها معفاة من المسؤولية لان ما تقوم به هو عمل مشروع وبالتالي تنتفي مسؤوليتها. وعلى صعيدٍ آخر فيمكن لجميع الدول ان تتحرك لمواجهة تصرف غير مشروع تقوم به دولة ما, فلم يعد موضوع المسؤولية يقتصر على العلاقة بين الدول المقصرة والدولة الضحية حيث منذ حكم محكمة العدل الدولية الصادر في شباط 1970 في قضية Barcelona Traction توجد فئة جديدة من الواجبات تستطيع كافة الدول ان تتحرك لحمايتها وقد تبلور هذا الاتجاه مع المادتين 48 و54 من المشروع النهائي للجنة القانون الدولي حول المسؤولية الدولية الناتجة عن اعمال غير مشروعة.

وبشكل عام يعتبر موضوع المسؤولية الدولية من الموضوعات الحديثة في الدراسات القانونية وقد فرضته التطورات السريعة التي عرفها المجتمع الدولي. ذلك ان لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة والتي شرعت بالعمل منذ العام 1961 لم تصل بعد إلى وضع نص قرار دولي حول المسؤولية الدولية, وان مشروع لجنة القانون الدولي النهائي حول المسؤولية الناتجة عن اعمال غير مشروعة والذي اصبح ناجزا في عام 2001 لم يفتح للتوقيع بموجب معاهدة دولية, الا ان محكمة العدل الدولية تسعى جاهدة بقراراتها للاشارة لما ورد بهذا المشروع. هذا مع الإشارة إلى إن ما يعيق تطور المسؤولية الدولية هو عامل القدرة والقوة في العلاقات الدولية.

تعريف المسؤولية الدولية:

يجمع بين تعريفات المسؤولية الدولية قاسمٌ مشترك هو أنّها «خرق لالتزام دولي من قبل دولة ما, يوجب مساءلتها من الناحية القانونية ». وعرفت أيضاً ” بانها تترتب قبل الدولة , او قبل اي شخص من اشخاص القانون الدولي, اذا ما أتى ذلك الشخص أمراً يستوجب المؤاخذة وفقا للمبادئ والقواعد القانونية السائدة في المجتمع”. وباختصار المسؤولية الدولية هي التزام الدولة مرتكبة الفعل الضار غير المشروع بإصلاح ما ترتب على فعلها من أضرار. مع الاشارة الى ان اشخاص القانون الدولي منهم ( الدولة والمنظمات الدولية …).

عناصر المسؤولية الدولية:

تقوم المسؤولية الدولية على عدة أركان أو عناصر تتلخص بما يلي:

أولاً: الفعل غير المشروع أو الخطأ الصادر عن دولة أخرى:

من الثابت قانونًا وفقهًا أن المسؤولية الدولية لا تقوم من دون عمل غير مشروع يمثل إخلالاً بالتزام دولي مفروض على الدولة، وثابت في حقها، وذلك سواء كان مصدره قاعدة عرفية أو اتفاقية أم قاعدة تمثل مبدأً من المبادئ العامة للقانون الدولي العام، والتي أقرتها الأمم المتحدة في ميثاقها….الخ.

ويستوي أن يكون الإخلال بالالتزام عملاً غير مشروع، أي إخلالاً إيجابيًا أو مباشراً بالالتزام الدولي المفروض على الدولة (الخطأ) أم سلبيًا كالامتناع عن القيام بعمل يترتب عليه تطبيق التزام دولي. وثار الخلاف الفقهي حول ما إذا كان مجرد الإخلال بالالتزام الدولي يثير بذاته مسؤولية الطرف الذي اقترف الإخلال. وفي ضوء ذلك ظهرت نظريات ثلاث تحدد أساس الفعل أو العمل غير المشروع، وهي: نظرية الخطأ والنظرية الموضوعية ونظرية المخاطر.

  1. نظرية الخطأ: يعود انتشارها الى الفقيه فاتيل (vattel )
    بموجب هذه النظرية لا يكفي لنشوء المسؤولية الدولية وجود إخلال بالتزام دولي، بل لا بد من أن يكون أساس هذا الإخلال الخطأ أو الفعل الخاطئ، ويستوي في ذلك أن يكون الخطأ متعمداً (أي توافرت فيه إرادة ارتكاب الفعل) أو أن يكون غير متعمد (ناتج عن إهمال أو تقصير).
  2. النظرية الموضوعية: يعود انتشارها الى الفقيه الايطالي أنزليوتي (Anzilotti )
    تقوم المسؤولية (وفق هذه النظرية) فقط على مجرد توافر مجموعة من العناصر المادية والموضوعية، المتمثلة بقيام الدولة بالفعل أو العمل غير المشروع، الذي يمثل إخلالاً بالتزام دولي دون البحث عما إذا كان هذا الفعل الخاطئ عمدياً أو غير عمدي (كما لو نتج عن إهمال أو تقصير جسيم). وحقيقةً امام المخاطر الكبيرة المتزايدة التي تواجه المجتمع الدولي من جراء انتهاك قواعد القانون الدولي, تزايد الاتجاه نحو الاخذ بهذه النظرية سواء في الفقه الدولي او في الممارسات الدولية المتمثلة في بعض المعاهدات التي اشارت اليها ومنها اتفاقية بروكسل في 31/1/1963 والخاصة بالمسؤولية المدنية عن المجال النووي, وقد اقامت هذه الاتفاقية المسؤولية على المستثمر النووي عن الضرر الذي ينجم عن النطاق النووي. وكذلك اتفاقية 29/3/1972 الخاصة بالمسؤولية الدولية عن الاضرار الناتجة عن الاجسام الفضائية. وهناك اتفاقية مجلس اوروبا المعتمدة عام 1993 الخاصة بالمسؤولية المدنية عن الاضرار الناتجة عن الانشطة الضارة بالبيئة. وبالتالي ظهرت المسؤولية الدولية الناتجة عن تصرفات مباحة في القانون الدولي.

ومن هنا فالفقه الدولي لعب بوضع عدد من القواعد المتعلقة بالمسؤولية الدولية, حيث اكد الفقيه (JENKS) على نظرية المسؤلية الناتجة عن نشاطات تحتوي على مخاطر استثنائية. حيث حسب هذا الفقيه فان احتمال وقوع الخطر هو الذي يولد المسؤولية الموضوعية, حيث اعتمد هذا الفقيه على طائفة من معاهدات القانون الدولي قائلا:” كل دولة مسؤولة نحو المجموعة الدولية او نحو الدول الاخرى ومواطنيها عن الخسائر الناتجة عن نشاطات استثنائية تنطلق او تجد اصلها ضمن اقليمها او تحت اشرافها”.

  1. نظرية المخاطر:
    تتمثل هذه النظرية بتأسيس المسؤولية الدولية على أساس المخاطر، أي أن كل فعل ضار حتى ولو كان مشروعاً يستتبع قيام المسؤولية الدولية (مثل التجارب النووية، الأبحاث الفضائية وغيرها…)، فالفعل هو العنصر الأساسي لقيام المسؤولية الدولية.

ثانيًا: عنصر الضرر:

يتمثل هذا العنصر بأنه يجب لانعقاد المسؤولية الدولية أن يترتب على العمل غير المشروع، والذي يمثل إخلالاً بالتزام دولي، ضرر لشخص من أشخاص القانون الدولي، بحيث يقال أن حقًا من حقوق الدولة قد تم المس به, أو أن مصلحة مشروعة لها تعرضت للانتهاك.

ثالثًا: نسبة الفعل غير المشروع إلى شخص القانون الدولي (رابطة السببية):

ووفقاً لذلك فانه يشترط لقيام المسؤولية الدولية أيضاً أن ينسب هذا الفعل غير المشروع إلى دولة ما. ويلاحظ أن هذا العنصر مرتبط بمبدأ سيادة الدولة داخلياً وخارجياً.

وعليه تنعقد المسؤولية تجاه الشخص الدولي متى ارتكب عملاً غير مشروع ترتب عليه ضرر لشخص دولي قانوني آخر أو لأحد رعاياه، وكانت الأدلة كلها مجتمعة على نسبة هذا العمل المسبب للضرر لذلك الشخص الدولي القانوني. وبالتالي إذا حملت المسؤولية الدولية لأحد أشخاص القانون الدولي، ينشأ عنها التزام يقع على عاتقه بإصلاح كل ما يترتب على فعله من أضرار. وقد أكد العرف والفقه والقضاء الدولي وقرارات المحافل الدولية وما نصت عليه اتفاقيات دولية عديدة تتعلق بالمسؤولية الدولية والعرف الدولي، التزام الدولة المسؤولة إصلاح الضرر بطريقة كافية.

ويمكن تعريف إصلاح الضرر بأنه مجموعة التدابير التي تقوم بها الدولة المعتدية (المدعى عليها) بغية إصلاح الضرر. فهو مجموعة الإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الدولة التي اقترفت الخطأ بغية إصلاح جميع ما ترتب على فعلها الخاطئ من أضرار. وتذهب العديد من الاراء الفقهية والقضائية الى ان مصطلح “إصلاح الضرر” أفضل من مصطلح “التعويض” وذلك لشمول (مصطلح إصلاح الضرر) الى كل ما يزال به آثار الفعل غير المشروع، بداية من وقوعه مروراً بالتعويض وصولاً إلى الاعتذار عنه ومعاقبة مقترفيه وغير ذلك من أشكال الترضية. أما التعويض فإنه يقتصر على تقويم الخسارة بمبلغ من المال يدفعه المعتدي للمتضرر تعويضًا عما ألحقه به.

وبعيدا عن الخلاف الفقهي حول الطبيعة القانونية لإصلاح الضرر وما إذا كان يحمل طابع العقوبة على الدولة أم أنه يقتصر على تعويض الضرر، وكذلك الخلاف الفقهي ايضا بخصوص محاكمة الأفراد المرتكبين للفعل الضار، فثمة فريق يمثل الأكثرية وينادي بمسؤولية الأفراد، وفريق يمثل الأقلية يرى أن المسؤولية الدولية تتحملها الدولة. الا ان ما يهمنا بذلك كله ان المادة الثالثة من اتفاقية لاهاي الرابعة للعام 1907 التي نصت على أن الدولة التي تخل بأحكام الاتفاقية تلزم التعويض إذا لزم الأمر وهي تكون مسؤولة عن كل الأفعال التي تقع من أي فرد من أفرادها.

مسؤولية دولة الصين عن فايروس كورونا:

بداية لا بد من البحث في ممارسات الدول المتعلقة بالمسؤولية الدولية عن النتائج الضارة الناجمة عن افعال لا يحظرها القانون الدولي:

وبالرجوع لما تقدم وفي البحث في تطور المسؤولية الدولية فهناك نظريتان:

1.نظرية وحدة المسؤولية: حيث تنشأ المسؤولية الدولية من فعل دولة خاطئ, وهذا الفعل الخاطئ يمثل انتهاك لالتزام دولي ضد دولة اخرى, وهنا على الدولة المعتدية واجب التعويض , ففي القضية المعروفة بقناة كورفو قضت محكمة العدل الدولية بالقول” ان دولة البانيا مسؤولة عن وجود الغام في مياهها الاقليمية دون ان تضع علامات التحذير الواجبة عن وجود هذه الالغام الخطرة, فان ذلك يعد مخالفة خطيرة تتحمل بموجبها البانيا توابع المسؤولية الدولية التي حدثت بانفجار هذه الالغام من ضرر, وما ترتب عليه من فقد الحياة , ومن هنا فان ثمة واجبا على البانيا يلزمها بدفع تعويض للملكة المتحدة.

2.نظرية ثنائية المسؤولية: تذهب هذه النظرية الى ضرورة ان تكون هناك علاقة من نوع اخر بين الدولة المرتكبة للعمل غير المشروع والجماعة الدولية باسرها في حال بلوغ العمل غير المشروع من الجسامة تجعله موجها ضد الدول مجتمعة, مثل الجرائم التي تهدد السلم الدولي وهو ما قررته محكمة العدل الدولية في قرارها في شباط لسنة 1970 وقررت فيه ان جرائم العدوان والابادة والتفرقة العنصرية تعد انتهاكا غير مشروع موجها ضد المجتمع الدولي.

وفي خطوة هامة وتطور كبير في في القانون الدولي عامة والمسؤولية الدولية بصفة خاصة, اخذت لجنة القانون الدولي بوضع قواعد قانونية بشان المسؤولية الدولية والخاصة بالمسؤولية الجنائية في القانون الدولي, وقد عرفت اللجنة في المادة 19/2 من مشروع تضمين المسؤولية الدولية الجريمة الدولية بانها ” فعل دولي غير مشروع, ينتج عن مخالفة الدولة لالتزام دولي يستهدف حماية المصالح الاساسية للمجتمع باسره, ويعتبر انتهاك هذا الالزام جريمة من وجهة نظر ذلك المجتمع” وقد ضمنت اللجنة في المادة 19/3 بعض الامثلة للجرائم الدولية منها : الانتهاك الخطير لالتزام دولي ذو اهمية جوهرية من اجل الحفاظ على السلم والامن الدوليين, والانتهاك الخطير لالتزام جوهري ذو اهمية سياسية في حماية حقوق الانسان, والانتهاك الخطير لالتزام دولي ذو اهمية جوهرية من اجل حماية الكائن البشري, والانتهاك الخطير لالتزام دولي ذو اهمية قصوى من اجل انقاذ وحماية وصيانة البيئة الانسانية.

كما ان القانون الدولي الانساني يحرم الاسلحة البيولوجية والكيميائية, ومن ذلك بروتوكول جنيف المبرم في 27 حزيران 1925, والمعاهدة التي صدرت في نيسان 1972 المتعلقة بتحريم الاسلحة البيولوجية, واتفاقية باريس المبرمة في 13 كانون ثاني 1993 التي تحرم انتاج وتخزين واستخدام الاسلحة الكيميائية وتدميرها.

بالاضافة لما قدم فان القانون الدولي لحقوق الانسان تناول الحق بالصحة, وقد تم التاكيد عليه في دستور منظمة الصحة العالمية, وفي المادة 25 من التصريح العالمي لحماية حقوق الانسان, كما اشارت اليه المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

ويعتبر تعريف حق الصحة من النظريات المعقدة, ولكن التعريف المتفق عليه هو التعريف الوارد في دستور منظمة الصحة العالمية والذي يفيد ” بان الصحة هي حالة رغد العيش الكامل في المجالات المادية, الذهنية والاجتماعية, ولا يقتصر فقط على غياب المرض او العاهات”. كما ان البحث في مجالات حق الصحة يثير اشكاليات من حيث ان حق الصحة : 1.حق فردي ( اي الامتناع عن التعرض بالاذى للحياة).2 حق الصحة حق جماعي اي ان الصحة هي باسم الكل بحيث للدولة ان تفرض الحجر الصحي والعزل, وان الصحة هي من اجل الكل.

والفكرة الاساسية هنا ان حق الصحة يعتبر جزءا لا يتجزا من قانون التنمية, وهو ما نصت عليه المادة 25 من عهد عصبة الامم حيث على الدول الاعضاء واجب باتخاذ الاجراءات ذات الطابع الدولي من اجل الوقاية ومقاومة الامراض المعدية, كما ان ميثاق هيئة الامم المتحدة فقد طرح مبدا التماسك ضد العدوان كذلك ضد التعاسة, كما ان دستور منظمة الصحة العالمية عالج حق الصحة من هذا المضمون وهو السلام بواسطة التعاون ” صحة كل الشعوب هي شرط اساسي للسلام في العالم, ويعتمد على التعاون الواسع بين الافراد والدول”.

ولما كانت الاعراف الدولية مصدراً من مصادر المسؤولية الدولية, حيث ظهرت بعض الاعراف الدولية التي ترسخت باحكام القضاء وظهرت العديد من القواعد منها: 1.ان الدولة يجب ان تمتنع عن استخدام اراضيها لالحاق أضرارا اقتصادية بالدول الاخرى.2. ان الدولة يجب ان تمتنع عن استخدام اراضيها لالحاق أضرارا بيئية بالدول الاخرى.3.واجب التحوط الذي يفيد بأنه في في مواجهة أخطار محتملة يجب على صانعي القرار في دولة ان يتصرفوا قبل حدوث اي ضرر, حيث ظهر مبدأ التحوط في مجالين من مجالات البيئة وهما حماية طبقة الاوزون وحماية البيئة البحرية وقد ترسخمبدا التحوط في حكم المحكمة الاوروبية لحماية حقوق الانسان والذي صدر في 27 كانون ثاني 2009.

ومن خلال التحليل السابق لمختصر ما تقدم بخصوص المسؤولية الدولية, فإن امكانية ملاحقة دولة الصين عن انتشار فايروس كورونا متوقف على نتائج اية تحقيقات دولية متعلقة بسبب نشوء المرض وانتشاره.


زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!